adsense

/www.alqalamlhor.com

2025/06/28 - 11:16 ص

بقلم الأستاذ حميد طولست

في زمن تتزاحم فيه القضايا الكبرى وتتنازع على اهتمام الإنسان، يعود سؤال الأولويات ليطرح نفسه بحدة: ما الذي ينبغي أن يهتم به المواطن المغربي أولًا؟ هل يُطلب منه أن يضع قضايا الآخرين فوق همومه؟ وهل يصبح فاقدًا للإنسانية إذا لم يهتز للمأساة في غزة؟الإجابة على هذه الأسئلة أجملها في ردي على تعليق  الأستاذين الجليلين على مقالتي المعنونة :" ضربة إيران لقاعدة العديد في قطر: مسرحية لإغلاق الستار لا فتح الجبهات" حيث تبرز رؤية الأستاذ "عبد الرزاق طالب" كرؤية عقلانية تدعو إلى إعادة ترتيب سلم الأولويات، بشكل يجعل المواطن المغربي يُولي العناية القصوى لشؤون وطنه أولًا، لا تقوقعًا –كما يدعي الأستاذ محمد الحداد- بل لأن الإصلاح يبدأ من الداخل. فطالب لا ينكر قيمة التضامن الإنساني، لكنه يعتبر أن التضامن الحقيقي لا ينبغي أن يتحوّل إلى بديل عن الانخراط العملي في قضايا الوطن وجهة نظر غالبية المغاربة والتي عبر عنها "طالب "من خلال أمنيته التي تقول: أتمنى يوما أن يكون المغربي كالبلجيكي كالسويسري كالنمساوي كماليزي كالأندنوسي كالتشيكي همه وطنه.ولا يهتم بأمور لا تهمه كي لا يحسب متطفلا".

الخطورة في الطرح العاطفي الذي يربط حسّ المغربي الإنساني فقط بقضية غزة، والذي يذهب إليه الأستاذ محمد الحداد، أنه يُقزّم القيم الإنسانية ويحصرها في قضية واحدة، وكأن من لا يُظهر حماسة أو انخراطًا وجدانيًا في الشأن الفلسطيني تحديدًا، هو مواطن فاقد للشهامة والكرامة. بل يذهب إلى حد القول:

"المغربي الأصيل يهتم بمعاناة الناس أينما كانوا... المغربي الذي لا يهتز لما يحدث في غزة، فاقد لحسّه الأخلاقي، منغلق على نفسه كالمريض."

هذا الطرح، رغم نُبل نواياه، يختزل معنى الأخلاق والإنسانية في معيار واحد: الانفعال العاطفي تجاه فلسطين. وهو أمر غير منصف، لا للمغربي، ولا للقيم الإنسانية نفسها، التي هي أوسع وأشمل. فهل المغربي الذي يهبّ لمساعدة الأرامل في جبال الأطلس أقل إنسانية من متظاهر في شوارع باريس لأجل غزة؟ وهل الذي يَهبّ ليحارب الأمية، أو يواجه الفساد المحلي، لا يستحق أن يُحسب ضمن "الضمير الإنساني"؟

ثم، ألا توجد في عالمنا اليوم عشرات القضايا الإنسانية التي تستحق التضامن؟ من المجازر في دارفور، إلى الإبادة في الروهينغا، إلى معاناة اللاجئين في البحر المتوسط، فلماذا الحصر الانتقائي؟ ولماذا الكيل بمكيال العاطفة وحده؟

تجربة المغاربة، تاريخيًا، كانت دائمًا حافلة بالتضامن مع قضايا الأمة، من فلسطين إلى الجزائر إلى جنوب إفريقيا، دون أن يفقدوا بوصلتهم الوطنية. لكن ما نشهده اليوم هو انفصام حاد بين الشعارات والممارسة: مواطن يملأ وسائل التواصل بحماسته لـ"نصرة غزة"، لكنه لا يهتم بتعليم أبنائه، ولا بمحيطه، ولا بصوته الانتخابي، ولا بمقاومة الفساد في حيه أو مدينته. فهل هذه شهامة؟ أم مجرد استهلاك عاطفي يعفي من المسؤولية اليومية؟

الأمم التي تُضرب بها الأمثال، كالنمسا، وسويسرا، وماليزيا، والتي يذكرها الأستاذ طالب، لم تبنِ كرامتها من خلال التظاهر العاطفي لقضايا بعيدة، بل من خلال اشتغال مواطنيها على تحسين أوضاعهم الداخلية، ثم بعدها فقط، أصبح لصوتهم وزنا في الدفاع عن القضايا العالمية.

إنسانية متوازنة لا انتقائية

إن ما يحتاجه المغربي اليوم، ليس مزيدًا من جلد الذات باسم "الشهامة"، ولا إحساسًا بالذنب لأنه مشغول بتعليم أطفاله أو تحسين دخله بدل النزول إلى الشارع من أجل غزة. فالتضامن الإنساني لا يجب أن يتحول إلى سيف مسلط على الضمير، ولا إلى معيار لوطنية مزعومة.

الإنسانية الحقّة لا تعني أن يذوب الإنسان في قضايا الآخرين، بل أن يتحرر من الانتقائية، ويمنح كل قضية وزنها، دون أن يُفرّط في قضيته الأولى: الوطن. المغربي الشهم ليس من يصرخ لأجل الآخرين فقط، بل من يعمل لأجل بلده، ثم يُنصت لهموم العالم وهو واقف على أرض صلبة.