adsense

/www.alqalamlhor.com

2025/06/29 - 11:51 ص

بقلم: سعيد شبري

في منشور أثار الكثير من الجدل، أعلن، أستاذ لعلم الاجتماع بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط (ج.ف)، عن امتناعه عن المشاركة في المنتدى العالمي لعلم الاجتماع المزمع تنظيمه في المغرب، موضحا أنه لم يكن جزءا من أي لجنة تنظيمية، وأن غيابه كان لاعتبارات شخصية. غير أن مضمون التوضيح تجاوز مجرد إعلان موقف فردي، ليحمل في طياته تأطيرا أيديولوجيا لمفهوم العلم، ودفاعا غير مباشر عن التطبيع الأكاديمي، مما يستدعي وقفة نقدية جادة، ليس من باب السجال، وإنما دفاعا عن علم الاجتماع نفسه، وتاريخيته، وقيمه النقدية والتحررية.

ما يدعو للقلق في منشور الأستاذ هو استحضاره لمفهوم "حياد العلم" باعتباره فضيلة مطلقة، واعتبار أي دعوة لمقاطعة المنتدى بسبب وجود مؤسسات إسرائيلية أو باحثين من جامعات متورطة في تبييض الاحتلال، موقفا غير علمي، بل دليلا على "الجهل". هذا الطرح يتنافى جذريا مع ما أثبتته فلسفة العلوم الحديثة، ومع التجربة التاريخية لعلم الاجتماع ذاته. فمنذ نشأته، لم يكن علم الاجتماع علما محايدا أو منزوع السياق، بل ولد في رحم تحولات سياسية واقتصادية كبرى: من الثورة الفرنسية، إلى بروز الرأسمالية، إلى الحروب والصراعات الطبقية. مفاهيم مثل الهيمنة، السلطة، الأيديولوجيا، والمقاومة، هي من صلب هذا العلم، وليست شوائب دخيلة عليه.

ثم إن كبار منظري السوسيولوجيا أنفسهم، من دوركايم إلى ماركس، ومن بورديو إلى نوربرت إلياس، لم ينكروا أبدا أثر الموقع الاجتماعي للباحث، وشروط إنتاج المعرفة، والعلاقات السياسية في تشكيل مضمون العلم. والقول إن العلم "محايد" هو في حد ذاته موقف أيديولوجي، يخفي خلفه مواقف أخلاقية قد تكون أقرب إلى التواطؤ منها إلى الموضوعية. فهل يمكن اليوم الحديث عن علم اجتماعي نزيه بينما يتم التطبيع مع مؤسسات جامعية إسرائيلية تشارك فعليا في مشاريع أمنية، وتعمل على تأطير الخطاب الصهيوني داخل الفضاء الأكاديمي؟ أليس من حق الباحثين المنتمين إلى قضايا الجنوب، والمناهضين للاستعمار، أن يرفضوا المشاركة في تظاهرات توظف فيها المعرفة كأداة تجميل لواقع استعماري عنيف؟

إن الدعوة إلى المقاطعة الأكاديمية ليست موقفا عبثيا، ولا هي إنكار للعلم أو للحرية الأكاديمية، بل هي ممارسة مقاومة، ترتكز إلى القانون الدولي، وتمارسها هيئات جامعية عريقة في أوروبا وأمريكا، من بينها اتحاد أساتذة الجامعات البريطانية، وآلاف الأكاديميين المناهضين للصهيونية من خلفيات متعددة، بما فيهم يهود تقدميون. هؤلاء لا يعادون العلم، بل يرفضون أن يوظف لتبرير العنصرية، والاحتلال، والإبادة الرمزية لشعب بأكمله. أما اعتبار هذه المقاطعة سلوكا انعزاليا وجهلا بطبيعة العلم، فهو تجاهل صارخ للتاريخ النقدي للسوسيولوجيا، وتحويل للعلم إلى مجرد شعارات جوفاء مفصولة عن القيم التي نشأ من أجلها.

وما يزيد من غرابة المنشور هو حديث الأستاذ عن "عظماء علم الاجتماع"، وسرده لأسماء غربية حصرا، من دوركايم إلى فيبر، مرورا بليفى ستروس، دون أي إشارة إلى أحد أبرز أعلام الفكر السوسيولوجي في التاريخ الإنساني: عبد الرحمن بن خلدون. هذا الإغفال لا يمكن أن يكون بريئا. فابن خلدون، في مقدمته الشهيرة، وضع أسسا رائدة لتحليل العمران البشري، والدولة، والعصبية، والصراع الاجتماعي، قبل أن يولد دوركايم أو فيبر بقرون. وقد اعتبره مؤرخو الفكر من طينة أرنولد توينبي وآخرين، مبتكرا لفلسفة جديدة في التاريخ الاجتماعي، تؤسس لما يمكن أن نسميه اليوم "سوسيولوجيا الجنوب".

تجاهل ابن خلدون في هذا السياق لا يعكس فقط هيمنة النموذج المعرفي الغربي، بل يعكس أيضا اغترابا أكاديميا يفرغ علم الاجتماع من جذوره النقدية، ويجعله تابعا لبنية معرفية لا ترى في الجنوب سوى موضوع للدراسة، لا مصدرا للإسهام النظري.

حين تتم الدعوة إلى نقد هذا الخطاب، لا نفعل ذلك من باب المزايدة أو الخصومة الشخصية، بل انطلاقا من إيمان راسخ بأن علم الاجتماع ليس مجرد أداة وصف محايدة، بل هو مشروع تحرري، يسعى لفهم العالم من أجل تغييره. وإذا كان البعض يرى أن الانخراط في المنتدى، رغم وجود تطبيع ضمني أو صريح، هو جزء من الانفتاح الأكاديمي، فإننا نرى أن الانفتاح لا يمكن أن يتم على حساب الكرامة الإنسانية، ودماء الشعوب، وحقها في تقرير مصيرها.

فالعلم، دون قيم، يصبح مجرد آلة فارغة. وعلم الاجتماع، إذا فقد بعده الأخلاقي، يتحول إلى واجهة ناعمة لتزييف الواقع. لذلك، فإن من يدافع عن المقاطعة هو، في الحقيقة، من يحاول أن يعيد لهذا العلم روحه المفقودة، ويمنع استغلاله في تبرير المظالم. أما أن يطلب من هؤلاء "أن يحزموا حقائبهم ويرحلوا"، كما جاء على لسان الاستاذ، فهو كلام مؤسف، لا يليق بحوار أكاديمي رصين، ولا يعكس إلا ضيقا بالرأي الآخر، وارتباكا في فهم دور السوسيولوجيا في زمن الأزمات.

علم الاجتماع، كما أراده ابن خلدون وبورديو وباولو فريري، هو أداة تحرر. ومن يرفض أن يحمل هذه الأداة، فليتركها لمن لا يزال يؤمن بأن المعرفة يجب أن تكون في صف العدالة، لا على الحياد.