بقلم الأستاذ
حميد طولست
في عالم
تتداخل فيه السياسة مع المسرح، وتُستبدل فيه الحقائق بالعروض الإعلامية، تصبح
الحروب أدوات مؤقتة لتحقيق أهداف مؤقتة. لا تُقاس فيها الهزيمة أو النصر بعدد
القتلى أو حجم الدمار، بل بمدى تحقق الأهداف المعلنة أو الخفية. من هذا المنطلق،
لا يمكن قراءة الضربات المتبادلة بين إيران والغرب مؤخرًا، خارج سياق هذه
"اللعبة الكبرى".
فالحرب، كما
يعرفها المنطق السياسي، ليست غاية، بل وسيلة يتم اللجوء إليها عندما تفشل أدوات
التفاوض. وما وقع خلال الشهور الماضية في الملف الإيراني هو تجسيد لهذا المنطق.
الهدف الأميركي لم يكن – كما يُشاع – "القضاء على إيران"، بل كان ولا
يزال "منعها من امتلاك سلاح نووي". وقد تحقق هذا الهدف مؤقتًا، عبر
ضربات دقيقة دمرت أهم ثلاثة مفاعلات نووية، وأعادت البرنامج سنوات إلى الوراء. لكن
الأهم من ذلك كان الاستهداف المباشر للعقول: العلماء الذين قادوا المشروع، والذين
يشكّل غيابهم فجوة قد تفوق في خطورتها تدمير المعدات.
ومن جهتها، لم
تختر إيران الحرب، بل فرضت عليها. ولم يكن لها هدف سوى الحفاظ على النظام القائم.
وهو ما تحقق فعليًا: فالنظام لم يسقط، بل استخدم العدوان الخارجي لتعزيز سرديته
الداخلية حول "المؤامرة الغربية"، تمامًا كما تفعل الأنظمة الشمولية في
مثل هذه الظروف.
لكن خلف ستار
الدخان، تبرز أسئلة أكثر إزعاجًا: هل حقًا تريد الولايات المتحدة القضاء على
إيران؟ الجواب الأقرب للواقع هو: لا. لأن إيران، بكل تناقضاتها، تظل في نظر البعض
"صناعة أمريكية–فرنسية" منذ لحظة وصول الخميني على متن طائرة إيرفرانس.
ومثلما تُتّهم حماس – في روايات مشابهة – بأنها صناعة إسرائيلية وُظّفت لإجهاض أي
مشروع وطني فلسطيني مستقل، ويبدو أنها و طهران تقومان بدور محسوب في لعبة إقليمية
معقّدة في خضم مشهد يتغذى على التوترات ، لا تكتفي فيه اسرائيل بتبرير حروبها على
أساس "الدفاع عن النفس"، بل تعتبر كل استقرار إقليمي خطرًا على مشروعها الوجودي،
لأن وجودها ذاته مبني على اختلاق الصراعات واحتكار السرديات التي لا يمكن على
ضوئها تجاهل المفارقات في المواقف الرسمية لبعض الأنظمة، وعلى رأسها الجزائر، التي
أدانت ضربات إيران على قطر في بيان بدا لأول وهلة منسجمًا مع الأعراف الدبلوماسية،
لكنه في العمق يحمل إشارات واضحة إلى مراجعة النظام الجزائري لتحالفه غير المتوازن
مع طهران. لأنه إعلان متكتّم عن صحوة متأخرة تجاه طبيعة النظام الإيراني التوسعي،
الذي لا يرى في شعوب المنطقة سوى وقودًا لصراعاته العقائدية.
ومن أكثر
الفصول طرافة في هذه المسرحية الطويلة، خروج رئيس الحكومة المغربي الأسبق الأستاذ
عبد الإله بن كيران ببيان يستنكر فيه قصف إيران لأكبر القواعد الجوية الأمريكية في
العالم، التي تحتضن أكثر من 10 آلاف جندي وأسطولًا من مقاتلات F-35. ناسيا – أو متناسيا – أنه قبل
أسابيع فقط، كان مع مظاهرة ضد ما وصفه بـ"التطبيع العسكري"، مهاجمًا
استقبال المغرب لسفن أمريكية تنقل أجزاء من طائرات F-35 لإسرائيل. مفارقة تُلخص ارتباك
الخطاب الإسلامي حين يتعلق الأمر بالمصالح الغربية أو الإيرانية، أو حين يختلط
الفقه بالسياسة.
ويبقى أن نقول إن الشعوب العربية والإسلامية ليست معنية، لا بحروب إيران بالوكالة، ولا بمخططات إسرائيل التوسعية. كما أنها ليست مستعدة لتصديق مسرحيات أنظمة فقدت كل صدقية. المطلوب اليوم أكثر من أي وقت مضى هو وعي استراتيجي حقيقي، لا يرى في الصراعات الطائفية والولاءات الأيديولوجية إلا أدوات تفكيك ممنهجة لمنطقتنا.