adsense

/www.alqalamlhor.com

2025/06/03 - 6:04 م

بقلم الأستاذ حميد طولست

في البلاد التي صار فيها أكل الضوارة والكرعين يُنظر إليه وكأنه من مظاهر التخلّف، بينما لهطة الأحزاب للمال العام تُبرّر بفقه الواقع و"التقدير السياسي"، تصبح المقارنة ضرورة لا تهكمًا. المواطن الذي يشتهي وجبة "بوكور" أو "رجلة" ليواسي بطنه آخر الشهر، لا يُرهق الميزانية ولا يهدد بنية الدولة، أما من يشتهي الصفقات والعلاوات والتعيينات على المقاس، فلهطته أخطر من الجوع ذاته، لأنها لا تُشبع، بل تتكاثر مع الوقت وتتحول إلى منظومة.

لهطة المواطن، مهما بدت بئيسة أو مثيرة للشفقة، قصيرة الأمد، تعود بعدها الحياة إلى سكونها ومعدته إلى صمتها. لكن لهطة الأحزاب، فهي مستدامة، لا تعرف الشبع، لأنها تُغذّى بثقافة خطيرة: "المال السايب كيعلم السرقة".

نحن أمام جيل سياسي ربّى المواطنين على الشك في أنفسهم بدل الشك في الفاسدين. المواطن إن رأى جريمة وسكت، يُلام؛ وإن بلّغ، يُهدد. إن صرخ، يُتهم بإثارة الفتنة؛ وإن سكت، يُحسب من المتواطئين. حتى الفساد، حين يُرى عيانًا في مؤسسة ما، لا يُعاقب المرتكب، بل يُعاقب من يجرؤ على كشفه. هذا هو منطق الفراقشية الذين حولوا الدولة إلى ضيعة، والمواطن إلى مشتبه فيه دائم، عليه أن يُثبت براءته من الفقر والغضب والمطالبة بحقه.

هذا المنطق لم يأت من فراغ، بل جاء مُمأسسًا، بصوت مرتفع، من رئيس حكومة إسلامي سابق، عبد الإله بنكيران، حين صرّح: "عفا الله عما سلف". كلمة واحدة، مسحت بها ذنوب من لهطوا الملايير، وجعلت من الفساد جزءًا من الموروث القابل للتعايش. وجاء بعده وزير عدل، من حزب يُفترض فيه الدفاع عن دولة القانون، ليقول بالفم المليان: "حتى إذا لم يُسجن الفاسد في الدنيا، فمصيره جهنم في الآخرة".

ما هذه الرسالة؟ أليست دعوة مفتوحة للفساد، وتبرير أخلاقي وقانوني لمزيد من التباهي بالنهب والعبث. إنها إذن دولة الآخرة، لا دولة القانون. دولة يُمكن فيها للص أن يفر، ويُقال للساخط: "إذا لم يعجبك الأمر، فغادر البلاد!"

فمن لهط الضوارة لا يهدد مستقبل أمة، ومن أكل الكرعين لا يُقصي الشباب من سوق الشغل، ولا يعطل مشاريع التنمية، ولا يحول القضاء إلى أداة ردع للصادقين. أما من لهط المال العام باسم الأحزاب، فقد بنى ثقافة كاملة: ثقافة الإفلات من العقاب، والتخوين الممنهج للمبلغين، والتشكيك في كل من يُطالب بالكرامة.

وفي النهاية، أيها المواطن البسيط: حين يُقال لك "خوي لبلاد"، فقط لأنك لا ترضى بالفساد، اعلم أن المشكلة ليست فيك، بل في من جعلوا الهروب من المسؤولية سياسة، ومن الجبن فضيلة، ومن الفساد قضاءً وقدرًا!