adsense

2017/05/31 - 11:17 م


أحمد عصيد
يُمكن القول إن الارتباك هو الطابع العام لما يحدث حاليا أمام تزايد احتجاجات الشارع المغربي على خلفية الأحداث الأخيرة بالريف. وهو ارتباك منشأه أن السلطة تعودت على التعامل مع أوضاع محددة بنفس أسلوبها القديم: التجاهل ثم الإنكار ثم الاتهام والتهجم ثم محاولة المساومة ثم العصا الغليظة ثم أخيرا البحث عمن يطفئ النيران، إنه أسلوب “المخزن” منذ القديم، لم يتغير كثيرا رغم التجارب المتراكمة، والسبب كون هذا “المخزن” كما قلنا دائما يعتبر نفسه جوهرا ثابتا في التاريخ، “تمضي الحوادث عنه وهو ملمومُ” لا يتأثر بما حوله، ولعل ذلك ما يبعث على الخوف عند البعض، والاستياء وفقدان الثقة عند الآخرين، والغضب العارم والانتفاضة عند الطرف الثالث.
ولقد ارتكبت أحزاب الحكومة بدورها خطأ بالغا عندما سمحت لنفسها بأن تتحول إلى مجرد أداة طيّعة في يد السلطة، في الوقت الذي كان ينبغي أن تكون لها كلمتها ومسؤوليتها في تدبير وضعية متأزمة، وقد زاد سلوكها من تدني مصداقيتها في أعين الناس، خاصة بعد أن انقلبت مع انقلاب تاكتيك السلطة، وبدأت تبحث عن مخرج للخروج من الضائقة.
في الوقت نفسه لا يمكن تجاهل مقدار الارتباك الذي أصاب منظمي الحراك الحسيمي أنفسهم، حيث في الوقت الذي أظهرت فيه السلطة استعدادا لتصحيح خطئها، وأعلنت عن مبادرة البدء في مشاريع التنمية بميزانيات محدّدة، بدا كما لو أن الذين يتحدثون باسم الشارع يفضلون استمرار الحراك وتجاهل الوسطاء الرسميين، الذين هم في الحقيقة طرف لا غنى عنه في وضع كهذا، وقد زاد من توتر الأجواء قيام الذين يتحدثون باسم الحراك بنزع المصداقية من كل التنظيمات مدنية كانت أو سياسية، بما فيها تنظيمات مشاركة في الحراك منذ شهور. وهي وضعية تجعل إرادة التصحيح تضعف أمام تزايد الهياج والنزعة الخطابية غير المؤطرة، والتي تعوزها استراتيجية واضحة.
أدى هذا إلى ارتكاب خطأ استعمال المساجد من طرف السلطة، وخطأ اقتحامه من طرف المتظاهرين، وبهذا الصدد أود أن أشير إلى أمر ذي أهمية بالغة، ففي تونس ومصر، دعا شباب الـ”فيسبوك” إلى النزول إلى الشارع، لكنهم لم يكونوا في مستوى تأطير الأمواج البشرية التي نزلت بالفعل، ونجحت الانتفاضة الشعبية، لكن عندما أصبح الناس على أبواب الانتخابات التي هي المعبر الوحيد بين الشارع والمؤسسات، تخاذل الشباب المذكور وتعاملوا بعدمية مطلقة مع الوضع الجديد، ومع جميع الأطراف، وفضلوا الانطلاق في موجة تشكيك في الجميع، بمن فيهم الذين ساعدوهم ووقفوا بجانبهم في الانتفاضة الشعبية، وكان ذلك خطأهم الفادح، ذلك أن نزع المصداقية عن الجميع تجعل الوضع بدون آفاق واضحة، حيث بدا مؤطرو الحراك كما لو أنهم يفضلون البقاء في الشارع من أجل الشارع، خلال ذلك كانت ثمة آليتان انتخابيتان جهنميتان تستعدان لاكتساح الحياة السياسية واستيعاب الوضع لصالحها: آلية “الإخوان المسلمين”، وآلية العسكر، وقد استعملتا معا فورة الثورة الشبابية في الوقت الذي لم تكن فيه قوى الانتفاضة في مستوى تقديم “مرشح الثورة”، كما لم تتوفر على إمكانية بناء تنظيم جديد أو جبهة سياسية تستجيب للرهانات الجديدة، مما جعلهم في وضعية انسحاب تام من الدينامية المؤسساتية.
معنى هذا أنه في لحظة ما من أي حراك شعبي لا بد أن تفسح اندفاعية الحراك الطريق أمام عقلانية التدبير واستراتيجية العمل الميداني، وهو في اعتقادي ما ينقص الحراك الريفي الحالي في لحظة حاسمة.
هذا الوضع المتورم يجعلنا أمام المشهد التالي: تصادم مباشر غير مأمون العواقب بين السلطة والشارع في غياب الأحزاب والمنظمات المدنية والنخب التي تزخر بها البلاد، محليا ووطنيا، مع تعالي دعوات إلى تدخل الملك لحل الأزمة، بينما كان الملك قد تدخل بالفعل عندما وجه وفدا وزاريا إلى الشمال مع أجندة واضحة لتدارك الوضع بشكل عملي، قبل أن تتخذ الأحداث اتجاها آخر بسبب وجود أكثر من جهة داخل الدولة تخطط للتدخل بأساليب مختلفة.
إن المطلوب حاليا ليس تدخل الملك، بل قيام كل طرف بواجبه في الوقت المناسب، فالبرلمان والحكومة وأحزاب المعارضة والمجتمع المدني الحقوقي والثقافي والشخصيات والفعاليات المؤثرة سواء محليا أو وطنيا، ملزمون جميعا بلعب دور محوري في إيجاد المخارج الضرورية من الوضع الحالي، وإذا كانت الجهة قد اقترحت مناظرة وطنية وهي التفاتة في محلها، فعلى الأطراف الأخرى أن تخرج من صمتها وسلبيتها، وألا تكتفي بتدبيج البيانات، وأن تتحرك في مبادرات متوازية، لكي يثمر حراك الريف النتائج المأمولة لصالح السكان البسطاء.