adsense

2020/05/08 - 12:26 م

بقلم الكاتب الصحفي عيسى فراق الجزاىر
لا أبالغ إذا قلتُ: إن التربية الإسلامية الحقة كانتْ مثالية في العصور الذهبية للإمبراطورية الإسلامية، وهي تفوق التربية الحديثة، وسنكتفي بذكر مبادئ التربية المثالية في الإسلام؛ لنبرهن على صحة ما نقول:
- خاطبوا الناس على قدر عقولهم:
هذا مبدأ من أهم المبادئ، ويجب أن يكتب بقلمٍ من النور على باب كل مدرسة، فلا يخاطَب الأطفال بلغةٍ لا يفهمونها، ولا يخاطَب الكبار بلغة الصغار، وهذا ما أراده سيد البشر محمد - صلى الله عليه وسلم - بقوله: ((نحن معاشر الأنبياء، أُمِرنا أن ننزلَ الناس منازلهم، ونكلمها على قدر عقولهم))، وقوله: ((ما أحد يحدّث قومًا بحديثٍ لا تبلغُه عقولهم إلا كان فتنة على بعضهم))؛ رواه مسلم من قول ابن مسعود،وهو ما أشار إليه الغزَّالي بقوله: "أن يقتصر المعلِّم بالمتعلم على قدر فَهمه، فلا يلقي إليه ما لا يبلغه عقله، فينفره أو يخبط عليه عقله".
ومعنى هذا أنه يجب على المربِّي أن يضع كل طفل في الموضع اللائق به، ويكلِّم تلاميذه على قدر عقولهم، ويخاطبهم بالعبارة التي يفهمونها، واللغة التي يُحسِنونها، ويراعي مستواهم العقلي، ومستواهم العلمي، حتى يدركوا الموضوعات التي يدرسونها، فلا يخاطب الأذكياء بما يخاطب به الأغبياء، ولا يخاطب الخاصة بما يكلم به العامة؛ فالذكي يفهم الشيء بالإشارة، والغبي ربما لا يفهمه إلا بعد أن يكرَّر له عدة مرات، وهذا ما تنادي به التربية الحديثة اليوم ولم تصل إليه.
- ((إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)):
إن التربية الخُلُقية هي أسمى أغراض التربية الإسلامية، وقد عُنِي علماء الإسلام كلَّ العناية ببثِّ الأخلاق الكاملة، وغرس الفضائل في نفوس المتعلِّمين، وتعويدهم التمسك بالفضيلة، وتجنُّب الرذيلة، والاتجاه دائمًا نحو المُثُل السامية، وتقديس العلم والأخلاق، والتفكير في الناحية الروحية والإنسانية، والتفرغ للدراسة العلمية والدينية.
وإن تلك المثالية النادرة التي امتاز بها الإسلام هي سرُّ عظمته وقوته، وقد أدَّت إلى نشاط كبير في التأليف والإنتاج العلمي، والعمل عن إيمانٍ وعقيدة، بثباتٍ وشجاعة وإقدام؛ لهذا كان مستوى علماء الإسلام رفيعًا، نجحوا في حياتهم، ونهضوا في تعليمهم، وقادوا العالَم في العصور الإسلامية الأولى في مدنيتهم الروحية، ودفاعهم عن الإنسانية، بمبادئهم من الحرية، والإخاء، والمساواة، والعدالة الاجتماعية.
وفي الوقت الذي عُنِيت فيه التربية الإسلامية بالتربية الخُلُقية لم تهملْ أي نوع من أنواع التربية العقلية، أو الجسمية، أو الرياضية، أو الاجتماعية، أو العلمية، أو العملية؛ فوصلتْ إلى التربية المثالية الكاملة التي لم تصلْ إليها التربية الحديثة.
لقد نادي الفلاسفة بالتفرقة في الطريقة التي تتبع في التعليم بين الصغار والكبار؛ لأن إدراك هؤلاء يختلف عن إدراك أولئك.
قال الغزَّالي: "إن مِن أولِ واجبات المربِّي أن يعلِّم الطفل ما يسهل عليه فَهمه؛ لأن الموضوعات الصعبة تؤدِّي إلى ارتباكه العقلي، وتنفِّره من العلم"
وشاركه العلاَّمة ابن خلدون في هذا الرأي قائلاً: "وقد شاهدنا كثيرًا من المعلِّمين لهذا العهد الذي أدركنا يجهلون طرق التعليم، ويحضرون للمتعلِّم في أول تعليمه المسائل المُقفَلة من العلم، ويطالبون ذهنَه بحلِّها، ويحسبون ذلك مرانةً على التعليم وصوابًا فيها... فإن قبول العلم والاستعداد له ينشأ تدريجيًّا".
فالغزَّالي وابن خلدون وغيرهما من فلاسفة التربية الإسلامية يرون أن تفكير الطفل يختلف عن تفكير الرجل، ويجب مراعاة ذلك في طريقة التدريس لكلٍّ منهما.
ويعدُّ هذا الرأي من أهم الآراء في التربية الحديثة في عصرنا هذ
- نظام التعليم الفردي
إننا نقصد من التعليم الفردي مراعاةَ قوة كل فرد، ومستواه في كل مادة يدرسها، وقد تعجبُ إذا سمعتَ أن هذا النظام قد رُوعِي في التربية الإسلامية منذ قرون مضتْ؛ فكان لكلِّ طالب الحرية في أن يختار أستاذه الذي يتلقى العلم عنه، ولا يُفرَض عليه أستاذ معيَّن، ويختار المواد التي يدرسها، ويسير في كلٍّ منها على حسب مستواه، وكانت التبعة في الدراسة والبحث تُلقَى على عاتق الطالب؛ فهو ملزم بإعداد الدرس ومناقشته مع غيره من زملائه قبل أن يحضر درس أستاذه، وكان المدرس على صلة روحية كبيرة بتلاميذه، يعرف قُوَاهم وميولهم ورغباتهم، ويراعيها في تدريسه، وللصلة الروحية القوية بينه وبينهم كانوا يستفيدون كثيرًا من علمه وخُلقه، وينتفعون من الاتصال به روحيًّا وعلميًّا، وهذا روح التربية المثالية الحديثة في القرن العشرين.
ولم يقتصرْ طلاب العلم على التحصيل من الكتب وحدها، بل كان أساتذتهم يشجعونهم على الرحيل في سبيل طلب العلم؛ للاتصال بالعلماء والأدباء والمؤلفين، وأَخْذ العلوم من منابعها الأصلية، وكثيرًا ما احتمل الطلاب قديمًا مشاقَّ السفر الطويل للاتصال شخصيًّا بأساتذتهم، ورحيلاً إلى أقاصي البلاد الإسلامية؛ لتحقيق مسألة علمية أو فقهية واحدة.
لقد طالب فلاسفة التربية الإسلامية بمراعاةِ ميول المتعلِّم، واستعداداته الفطرية، وقدراته الطبيعية، عند إرشاده إلى المهنة التي يختارها في مستقبل حياته، وخاصة ابنَ سينا؛ فقد نادى بالعناية بدراسة ميول الطفل، وجعلها أساسًا لإرشاده وتربيتِه قائلاً: "ليس كل صناعة يَرُومها الصبي ممكنة له مواتية؛ لكن ما شاكل طبعه وناسبه؛ ولذلك ينبغي لمدبِّر الصبي إذا رام اختيار الصناعة أن يزن أولاً طبعَ الصبي، ويسبر قريحته، ويختبر ذكاءه، فيختار له الصناعات بحسب ذلك"
وهي نصيحة ثمينة "لابن سينا" ينصح فيها المربِّين، الذين يريدون اختيار صناعة لصبي من الصبيان، أن يزنوا طبعه أو ميله، ويعرفوه، ويختبروا عقله وذكاءه، حتى يختاروا له صنعة تناسب ميله وعقليته، فإذا كان يميل إلى الدراسة الأدبية وجِّه إليها، وإذا رغب في الناحية العملية شجِّع على اختيارها، وإذا أحب الدراسة العلمية أو الدينية، أُعطيَ الفرصة لدراستها، وهذا رأيٌ مِن أثمن الآراء في التربية الإسلامية، ونحن ننادي به اليوم، وليس هناك مَن يجيد النداء، ولا ريب أنه ليس من السهل أن ينبغ المتعلم في كل مادة يدرسها، ولكنه يستطيع أن يتفوَّق ويكون ماهرًا في المواد التي يحبُّها ويميل إلى دراستها، ومحال أن ينبغ في المواد التي يكرهها وينفر منها.
إن التربية الإسلامية كانت تفكِّر في الأذكياء، وتلتقطهم كما تلتقط الأزهار من الحدائق، وتُعنَى بهم كلَّ العناية، وتضعهم في المواضع التي تناسب ذكاءهم، وتوجِّه غير الأذكياء من المتعلِّمين إلى الناحية العملية، وتوضح لكل طالب ما يلائمه من العلوم؛ إذ ((كلٌّ ميسَّر لِمَا خلق له)).
فالتربية الإسلامية تربية مثالية، قد نادتْ منذ أكثر من ألف سنة بما ينادي به علماء النفس وعلماء التربية في القرن العشرين.