adsense

2019/07/14 - 5:17 ص


بقلم الأستاذ  عبد الغني فرحتي
سرعان ما أخذ الخمر يلعب برأسي، فاكتسبت الجرأة المفقودة وصرت أحكي العديد من النكت والطرائف التي راكمتها من العيش بفاس الجديد، بعضها أبكت "الحاج " من شدة الضحك. غنيت، رقصت، لا أدري هل أنا الذي اخترت من رافقتني إلى الفراش تلك الليلة أم أن ذلك كان مدبرا. المهم، بعد ساعات من السهر، سأجد نفسي على السرير بين أحضانها، بعد أن تركنا "الحاج " يكمل سهرته.
  بعد غذاء اليوم الموالي، سنعود إلى مقر العمل. لم يسألني "الحاج" عن موقفي وشعوري تجاه ما عشناه تلك الليلة. مرت أيام وسارت الأمور عادية. لم أحك لأي كان ما حدث لي مع" الحاج ". وربما كان هذا بالأساس السبب الذي جعله يثق بي ثقة كبرى. لأجد نفسي مورطا ومتعودا على حضور مغامراته وسهراته في كثير من المدن والمناطق. أكثر من ذلك، سأصبح مع الأيام مهندس تلك الليالي الحمراء ومبرمجها، بطبيعة الحال مع تنسيق مع أعيان و"مسؤولين محليين".
  مرات عديدة، يجتاحني القلق والتوتر وأنا أدرك أن شعلة البحث العلمي انطفأت في نفسي وأن شهادة الدكتورة التي كنت أحلم بها غدت بعيدة المنال. كم مرة فكرت في الثورة على نفسي ومحاولة القيام بواجبي المهني الحقيقي، فلموضوع السكن غير اللائق راهنيته بل وكنت واثقا أني، بحكم تكويني في المجال وبفضل المعطيات الهامة والهامش الكبير لتدخل الجهاز الذي أصبحت من أطره، في تنفيذ سياسات سكنية ومجالية، كنت أحس أنه بإمكاني المساهمة بمقترحات تفيد في تجاوز معضلة السكن العشوائي.
  انقطعت زياراتي إلى فاس، وقلت لقاءاتي بوالدي وإخوتي الثلاثة. رفاق الدراسة والطفولة أشاعوا بينهم أني، منذ التحقت بالوظيفة، أصبحت متكبرا وتنكرت للجميع. حتي الفتاة التي كنت أحبها حبا جنونيا، " بنت الحومة" أول حب، أول علاقة عاطفية انخرطت فيها منذ بلوغي فترة المراهقة، انشغلت مطلقا عن الاتصال بها. كنا نحلم بالزواج مباشرة بعد الاستقرار الوظيفي. وبينما كانت مجالات الجغرافيا قد استهوتني، اتجهت هي إلى كلية الطب، لتتخرج دكتورة في الطب العام، في الوقت الذي كان قد مر حوالي السنة عن التحاقي بالوظيفة. ظلت متمسكة بالأمل في الزواج بيننا، لذلك، وحتى تتجنب حرج أسرتها، قررت مواصلة الدراسة حتى نيل شهادة التخصص.
  أنا أيضا، لا أخفي حبي الكبير لها ورغبتي في الزواج بها، لكن قوة ما كانت تمنعني من الانتقال إلى الفعل. فكرت مرات عديدة في التصريح "للحاج" برغبتي في الزواج والاعتراف له بوجود فتاة في حياتي أحبها، لكني لم أستطع. هل يعود ذلك إلى كوني أيضا أصبحت مدمنا على تلك الليالي الحمراء؟ ألا يمكن أن يكون السبب الثاوي وراء ذلك، هو غيرتي على حبيبتي وخوفي من أن " تقتنصها عين " الحاج" الذي لم أعد أرفض له طلب؟.
 مرت السنون سريعة، ولم أحس بإيقاع الزمن الجارف. لم أستفق من غفوتي الطويلة إلا بعد فوات الأوان، بعد أن أحلت على التقاعد. وهآنذا أعيش في منزل فسيح، غير أن جليد الوحدة يقتلني. أشعر وكأن حياتي سرقت مني. لا زوجة، لا أولاد، لا أصدقاء. حتى هاتفي أمسى أخرسا وأضرب عن الرنين.  أنا الآن، اعاني من شدة الوحدة وبرودة جليدها، يقتلني الشعور بالندم عن هذا المسار التي اتبعته. كثيرا ما أتساءل: " أما كان علي، منذ البداية أن أرفض الاستمرار في الورطة التي وضعني فيها " الحاج "؟ أما كان علي أن أقول لا؟ لماذا خضعت لنزواتي العابرة، فسقطت أنا الآخر في مستنقع إدمان هذه الليالي الحمراء؟. أشعر أنا الكل يكرهني: حبيبتي التي نقضت العهد معها وتخليت عنها، والدي اللذان وإن كنت، من الناحية المادية، لم أتركهما في حاجة إلى أي شيء، غير أني حضرت مراسم جنازة الوالد، ثم الوالدة بعد سنتين، كالمتسلل. رفاقي وأقراني، كانوا يتفادوا النظر أو الاحتكاك بي، حتى زملائي في العمل، كانوا يكرهونني غيرة مني عن تلك "الحظوة" التي كانت لي عند " الحاج".
 أنا، الآن، أشعر بالإفلاس التام، ليس من الناحية المادية، فرصيدي في الأبناك لا أعرف مقداره ومبالغ التحويلات التي تتم كل شهر، بفضل أذونات سيارات الأجرة التي كان يمنحها لي "الحاج" كمكافآت، وبفضل أكرية عقارات استفدت منها، كبيرة. أشعر بالإفلاس من الناحية الإنسانية والدفء الأسري. لا أخفيكم، مرات عديدة، فكرت في الانتحار، سعيا وراء الخلاص من شدة ما أعانيه، لكني لم أقدر. أتذكر هنا ما قاله "العربي باطما" في سيرته الذاتية، لما اشتدت به الآلام وكان حينها، متيقنا من الموت بسبب المرض الذي ينخر جسده: "الانتحار قرار جبان، لكنه يحتاج للشجاعة لتنفيذه". فهل يا ترى، سأملك هذه الشجاعة يوما ما؟ الشجاعة التي افتقدتها منذ اليوم الذي كان ردي على "الحاج": "واخا نعم آس" "احتراماتي نعم آس".