adsense

2020/04/02 - 6:14 م

قصة في ثلاثة مقاطع                
بقلم الأستاذ عبد الغني فرحتي
عبثا حاول يوسف أن يتماسك وأن يظل محافظا على رباطة جأشه. لكن، وبمجرد ما استفاق المدني ووجه نظره إليه حتى انفجر باكيا وبحرارة أثارت الانتباه.
" ما بك، بالتأكيد، هناك شيء ما جعلك في الحالة التي أنت عليها. بالله عليك لا تخفي عني شيئا. فهل هناك أفظع من أن يفقد المرء الأم ويكون تشييع جنازتها بهذا الشكل. بالله عليك، قل لي ما عندك. ولا تخش شيئا. " لي ليها ليها". الأمر ولاشك، يتعلق بزوجتي وولدي، أليس كذلك؟". 
 اقترب يوسف من المدني وعانقه بحرارة وهو يردد: 
" كان الله في عونك أخي، كان الله في عونك. أنت إنسان مؤمن، " قل لن يصيبنا إلا ما كتبه الله لنا". من حقك أن تعرف ما جرى. لا أستطيع أن أخبرك بشيء، ادعوك فقط إلى سماع هذه الرسالة الصوتية، فهي، للأسف تنقل أخبارا سيئة للغاية. كان الله في عونك".
 ناوله يوسف هاتفه وتركه يستمع لمضمون الرسالة الصوتية. وقف بجانب الغرفة يترقب ما يمكن أن يصدر عنه من ردود فعل. بعد لحظات، انخرط المدني في نحيب حار يدمي القلوب، نحيب امتزج بكلمات باللغة الإيطالية ترددت فيها كثيرا كلمة ناطاليا NATALIA  إسم الزوجة الفقيدة. بدا وكأنه أمسك عن الاستماع إلى الشريط الصوتي بمجرد ما صدمه خبر موتها، لذلك، عاود الانصات له مرة أخرى، بعد أن تخلص من هيستيريا البكاء الذي اجتاحته، سعيا وراء الاطلاع على مصير ابنه أدم. فالاطمئنان على سلامته سيخفف شيئا من روعته.
 مرت لحظات طويلة والمدني وحده في الغرفة وشدة الحزن والألم تمزق أحشاءه. أما يوسف، فإنه وإن آثر أن يترك المدني وحده، إلا أنه ظل يراقب الوضع عن كثب ترقبا لما يمكن أن يصدر عن الصديق المكلوم من ردود فعل.  ولما لاحظ استرجاع المدني للهدوء، دخل عليه وعانقه معزيا وداعيا له بالصبر وللفقيدين بالمغفرة والرضوان.
 " لا حول ولا قوة إلا بالله، الله يرحمها، كانت ناطالي نعم الحبيبة، نعم الزوجة ونعم الأم. ما يؤلمني إضافة إلا فراقها، أن الظروف لم تسمح لي حتى بتشييعها والوقوف على قبرها". صمت للحظات محاولا استجماع قواه واحتواء الرغبة في البكاء التي تأبى أن تفارقه، ثم واصل:
" لا زلت لا أصدق، ناطاليا، المرأة الطيبة القوية البشوشة يهزمها الفيروس، أمر لا يصدق. لقد أحسست، حين رأيتها آخر مرة، حين ودعتني بالمطار، وهي تعانقني بشدة. ربما كانت تحدس أن ذاك هو لقاؤنا الأخير. يارب، هون علي. يارب".
استبد الصمت بالمكان لمدة ليست باليسيرة. "ما أصعب أن يواجه المرء فراق أحبائه وحيدا. حضور الأقارب والجيران يخفف شيئا من المعاناة. تدابير حالة الطوارئ فرضت على الجميع البقاء في المنازل". هذا ما كان يوسف يردده في نفسه، قبل أن يخاطبه المدني:
ــ " الحمد لله على كل حال. المهم الآن، هو كيف يمكن أن نحقق رغبة المرحومة والدتي، في هذه الظروف، في إقامة حفل مأتم إكراما لروحها وإحسانا؟".
" يمكننا أن نقوم بأفضل من ذلك. يمكن إتيان عمل يجمع بين الحسنيين: التصدق وفاء لروح المرحومتين، الأم والزوجة، وفي نفس الوقت، التجاوب مع هذه الحملة التضامنية التي انخرطت فيها الجميع والهادفة إلى الوقوف بجانب الفئات والقطاعات المتضررة من توقف الأنشطة التجارية والإنتاجية بفعل تفشي الوباء". هكذا رد يوسف بحماس مؤثر دفع المدني إلى القول:
" فكرة جيدة استحسنها. لكن كيف يمكن تحويلها إلى تدابير عملية؟"
" أولا هناك حساب بنكي وضعته الدولة لهذا الغرض ومفتوح أمام مساهمات الأشخاص المعنويين والذاتيين. يمكن أن تتبرع بأي مبلغ تريد وعبر هاتفك. وثانيا، وكفاعل جمعوي، يمكن أن نهب لمساعدة العديد من المحتاجين من الأقارب والمعارف، ممن فقدوا عملهم او توقفت أنشطتهم الني هي مورد عيشهم. وأن الإسراع بالمشاركة في هذا الورش التضامني سيكون أفضل وأحسن أثرا ".
 لم يكن يوسف في حاجة لجهد كبير لإقناع المدني. بعد تدارس أشكال ترجمة ذلك إلى تدابير عملية، اتفقا على أن يحصرا لائحة محددة من الأفراد الذين توقف نشاطهم الاقتصادي بسب الجائحة على أن يتولى المدني، باسم والدته وباسم زوجته، تسديد واجب أكريتهم لمدة شهرين. استغرق إنجاز هذا الفعل الإحساني قرابة يومين. ولم يكن دور يوسف فعالا فقط في كونه هو من اقترحه ولكن أيضا في تجسيد هذا الفعل على أرض الواقع. وهو أمر ساهم في التخفيف كثيرا ما من أحزان المدني.
صبيحة اليوم الثالث، وأمام تواصل تدفق الأخبار المقلقة بخصوص تداعيات الوباء، تلقى المدني اتصالين هاتفيين أشاع في نفسه بعضا من الفرحة والسرور. الأول، وكان من طرف ابنه أدم الذي طمأنه عن أحواله. أما الثاني، فكانت المتصلة هي أخته نجاة التي زفت له خبر وضعها بسلام لبنت اختارت لها اسم "انبعاث"
                                         انتهى