adsense

2019/08/17 - 5:44 م

بقلم عبد الحي الرايس
يَحْلُو لبعض الْمُنظِّرِين ـ في سياق مناقشة القانون الإطار 51.17 المتعلق بإصلاح التعليم، واستعراض تداعياته وانعكاساته ـ أن ينعتوا المنتصرين للعربية، المعترضين على فرْنسة التعليم، ب(جوقة المتهافتين)، معتبرين أن قضية اللغة جزئية ثانوية، وأن إشكالية التعليم أعمُّ وأشمل، وأن الْمَسَّ بمجانيةِ التعليم أحقُّ بالاعتراضِ والتنديد، وعندما يُسألُ بعضُهم عن رأيه في لغة التعليم، يعقد مفارقة على مستوى حضور المصطلح في المرجعيات بين عربية وفرنسية وإنجليزية، يُقصي بعدها العربية متُعللاً بأن زمانها ولَّى، ولا أملَ في عودته، ويَخْلُص إلى النصح باعتماد الإنجليزية .
وينبثق السؤال: لمن النصيحة يا ترى؟ للخاصة؟ أم لخاصة الخاصة؟
أم لمدرسةٍ بالمغرب لا تزال فاقدةً هُويتها باحثةً عن ذاتها ك "مدرسة مغربية" وطنية مُوحدة مجانية وعمومية؟
لا أحدَ يُمَارِي في أن أزمة التعليم بالمغرب أزمةُ اختيار وقرار، أزمةُ رؤية وإستراتيجية، أزمةُ هُويةٍ وأولويةٍ في الميزانية.
فهل نُرْجِئُ مناقشة القضية اللغوية إلى ما بعد إصلاح جذري للتعليم؟ أم أن ما لا يُدرك كله لا يُترك بعضُه، ولو أن اللغة ليست مُطلقَ بعض، وإنما هي جوْهرُ الكيان والهُوية، ولا نخشى بعدها أن نُدرَجَ عند البعض في عِدَادِ (الجوقة)، وأكْرِمْ وأنعِمْ بها من جُوقة.
دعْنا نُسلِّمْ جدلاً وللحظة بأن العربية أصيبتْ بالعقم فلم تعد تُنتج علماً ولا تاتي بمصطلح.
فهل نتخلى عن هويتنا ونسلم أنفسنا لاستلابٍ مُعلَنٍ مُطلق في المدرسة والإدارة والعمل؟ !
غير أن العربية بشهادة العدو قبل الصديق لغةٌ حية برصيد هائل من الكلمات، وقابلياتٍ جيدةٍ للنحت والاشتقاق، وميزةٍ تكادُ تنفرد بها عن سائر اللغات هي التجدد والخلود، بدليل أن لغة العصر لا تنأى كثيراً عن تلك التي كانت متداوَلةً منذ قرون.
ومتى انطلقت المبادرة صادقة من بعض البلاد، ورجَّعت صداها أخرى في إطارمن التكامل والتنسيق، فسينطلق الماردُ العملاقُ من قُمقمه.
وحين ينص تقرير اليونسكو على " أن اللغة الوطنية من الناحية البيداغوجية تُمكِّنُ الناشئ من التعلُّم بسرعةٍ أكبر من تلك التي يتعلم بها إذا كانت اللغة أجنبية عنه"
فإنه بذلك لا ينْحازُ ولا يُدافعُ عن لغةٍ بعينها، وإنما يوجه النصح لكل بلد أراد التحرر، وتأكيدَ الهوية، وتسريعَ  عجلة التنمية.
والأمثلة على ذلك تَتْرَى:
ـ لغة كانت إلى حدود أواخر القرن التاسع عشر في عِدَادِ اللغات الميتة، قرر أصحابُها إحياءَها واعتمادَها، فتحقق لهم ما أرادوا، وصارت "العِبْرية" لغة إدارة، وتعليم، وتداول، وإعلام.
ـ دول اعتمدت لغتها الوطنية كتركيا والصين واليابان والهند والفيتنام والفلبين وكذا إيسلندا(على صغر مساحتها، وقلة عدد سكانها)، فحققت نهضتها، وأثبتت على سلم التنمية تميزها.
ما أوْجب الاعتراض على العودة إلى الفرْنسة، هو اختزالُ أزمة التعليم في اللغة، وتعليقُها على مِشجب اللغة العربية التي كان التآمرُ عليها منذ قرار الوقوف بالتعريب عند الثانوي دون الأخذ به في العالي، فأنتج أجيالاً لا هي بالمعربة ولا بالمُفرْنسة.
وأكيد أنه إذا لم يتم التراجع عن ترسيم الفرنسة، والمضي في اعتمادها لغةً لتدريس العلوم فسيكون الانتهاء ـ عاجلا أم آجلاً ـ إلى الإقرار بفشلها، وإلقاء التبعة مرة أخرى عليها ـ ولات ساعة مَنْدم حينهاـ بعد ضياع أجيال من أبناء البسطاء وعامة الناس على الطريق، في مهب الهدر المدرسي، والعجز المادي عن توفير فرص التدارك والدعم والمواصلة والمسايرة.
نَخْلُصُ من كل هذا إلى القول بأن رَفْع تحدي إصلاح التعليم ينبغي أن يكون أولى الأولويات، وأن اعتماد اللغة الوطنية أداةً أولى للتعليم، ضرورةٌ من ضرورات الإصلاح والتنمية.
وعندها سنُطلق العربية من عقالها، لِتُرينا عجائبها ومُخبَّآتها، فاللغة بأهاليها، يُسْلِمُون أنفسهم للاِسْتلابِ ويَهُونون فتهُون، ويحتفون بها، ويولونها الاهتمام بتشجيع البحث والترجمة والتوثيق ـ فتسْمُو بهم إلى مدارج العزة والنماء.
وبموازاة ذلك لا مندوحة عن تقوية الإنجليزية كلغة أجنبيةٍ أولى متداولةٍ في الساحة الدولية، ثم لغةٍ أخرى ولتكن الفرنسية كلغةٍ ثالثة، تيْسيراً للانفتاح، وتمكيناً من أدوات البحث والتواصل والمواكبة.
وإلى أن يتحقق ذلك نأمل أن ينأى النقاش عن الذاتية، ويتحلى بالموضوعية، وأن يتغيَّى الجميعُ صالح البلاد، ومستقبل الأجيال، استنارة بالروح العلمية، واستلهاماً لأنجح التجارب الدولية.