adsense

2023/04/06 - 12:15 م

عبدالإله الوزاني التهامي

إن التأسي بالقدوة العظمى سيد الخلق أجمعين وبسيرته عليه وعلى آله أفضل الصلوات والتسليم، هو مرتكز ومنطق أهل الله السالكين، وذلك باستجابتهم المطلقة والتلقائية لأوامر الله ونواهيه، يقول تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله إسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم آخر،  وذكر الله كثيرا} سورة الأحزاب.

واتباع رسول الله ﷺ في صغائر الأمور وكبيرها شرط لا مفر منه، للوصول إلى درجة القرب من الله سبحانه وتعالى، باعتبار النبي عين الوجود والمنار الذي يستضاء به في ظلمات العالم الدامسة، وبهذا التأسي والاتباع يدرك أولياء الله بعين بصائرهم ما في الآخرة من نعيم مقيم و وسعير جحيم، يقول تعالى في هذا الشأن: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم} الآية.

 ولا اتباع ولا اقتداء إلا بعلم ومعرفة، لهذا كان أساس المتصوفة العلم وحجتهم العمل، يقول الغزالي في هذا الشأن: "وعلمت أن طريقهم إنما تتم بعلم وعمل وكان حاصل علمهم قطع عقبات النفس والتنزه عن أخلاقها المذمومة، حتى يتوصل إلى تخلية القلب من غير الله تعالى وتحليته بذكره"(1).

وهم بهذا يعملون بما ورد عن النبي ﷺ في دعائه: {اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع…} رواه مسلم.

 يفسر ابن عطاء الله السكندري العلم النافع فيما يلي: "العلم النافع هو الذي ينبسط في الصدر شعاعه، و ينكشف به عن القلب قناعه، العلم النافع هو العلم بالله تعالى وصفاته وأسمائه، والعلم بكيفية التعبد له والتأدب بين يديه"(2).

و أما عن محورية الذكر عند أهل الله من المتصوفة، فيقول رسول الله ﷺ: {سبق المفردون، قالو وما المفردون يا رسول الله، قال: الذاكرون الله كثيرا والذاكرات} رواه مسلم.

والقرآن والسنة مليئان بالنصوص التي تحث على الإكثار من ذكر الله تعالى، وتجعل من الذكر نقطة محورية، وشرطا أساسيا لمن أراد الفوز والفلاح. الذكر بالنسبة للقلب، بمثابة الماء للسمك، فكيف يكون حال السمك بلا ماء؟

فدوام الاتصال بالله تعالى لا يكون إلا بالإكثار من ذكره، ونتيجة الذكر وثمرته تتجلى في قوله تعالى {اذكروني أذكركم}، يذكر العبد ربه باستحضاره قلبا و لسانا وجوارحا، فيذكره الله بحفظه ورعايته وينصره بمعيته، فيرزقه حياة القلب المتجلية في الاطمئنان والسكينة.

يوصي ابن عطاء الله السكندري (صاحب الحكم) بضرورة الذكر والمداومة عليه باعتباره باب الولاية ومفتاحها، قائلا: لا تترك الذكر لعدم حضورك مع الله فيه، لأن غفلتك في وجود ذكره، أشد من غفلتك في عدم وجود ذكره، فعسى أن يرفعك من ذكر مع وجود غيبة عن سوى المذكور. وما ذلك على الله بعزيز".

قال الشاعر(3):

و الذكر أعظم باب أنت داخله

                     لله فاجعل له الأنفاس حراسا.

الإكثار من الذكر يورث العلم الغزير والعمل الرزين والرحمة بخلق الله، لهذا من كان ذاكرا كان حليما لا عنيفا، ومصدر الرفق كثرة الذكر. كيف لا والذاكر يذكر أرحم الراحمين والرحمان الرحيم مغيث العالمين سبحانه تعالى.

 وعلى العكس من ذلك نجد صفة الغفلة عن الذكر لصيقه بالمنافقين لأنهم {لا يذكرون الله إلا قليلا} سورة النساء.

ولا يكون الذكر بالقوة والفاعلية التي ذكرنا إلا بصحبة شيخ عارف بالله، يقول السهروردي فيما يهمنا: {لا بد لك من شيخ مرشد إلى طريق الحق، مرب عن الأخلاق السيئة، وأن يكون عالما لأن الجاهل لا يصلح للإرشاد وأن يكون معرضا عن حب الدنيا وحب الجاه، ويكون محسنا لرياضة نفسه من حب الأكل والنوم، والقول وكثرة الصلاة والصدقة والصوم، ومتصفا بمكارم الأخلاق كالصبر والشكر والتوكل واليقين والسخاوة والقناعة والحلم والتواضع والصدقة و الحياء و الوقار والوفاء والسكون وأمثالها. ومثل هذا الشيخ نور من أنوار النبي ﷺ، ولكن وجوده نادر أعز من الكبريت الأحمر }(4).

صدق  الأستاذ المربي العارف سيدي السهروردي، فالبحث (في زمننا خاصة) عن الشيخ الواصل الموصل كالبحث عن الكبريت الأحمر، بل الأمر أشد من ذلك، لكن من وفقه الله من عباده رزقه نور البصيرة الكاشف الهادي الباحث عن الشيخ المقصود، {إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يوتيكم خيرا}، كما حدث لشيخنا الكبير أبي الحسن الشاذلي في بحثه عن من يأخذ بيده.

  و قد كان للمغرب -ولا يزال- النصيب الأكبر من جهابذة المتصوفة، الذين أضفوا عليه بما اتصفوا به من قداسة ونورانية وقوة، وبما عرفوا به من الجهاد و الاستشهاد. وعلى رأس هؤلاء العارفين: مولاي العربي الدرقاوي، ومولاي عبد السلام بن مشيش، وسيدي أبي حسن الشاذلي، وسيدي البوزيدي، وسيدي أحمد بن عجيبة، ومولاي عبد الله الشريف، ومولاي التهامي.. و غيرهم علي مر الزمن كثير.

وفي جانب النساء العارفات، يبرز اسم للاالهاشمية العابدة الزاهدة دفينة غمارة (انظر "الروض المنيف" لسيدي الطيب بن عبد الله- مخطوط} ورابعة العدوية.

و يكفي {شمال المغرب} شرفا بما اصطفاه الله به، حيث "صدر" إلى العالم كله "علوم الكمال الإنساني" بفضل العالم العارف شيخ جبل العلم ببني عروس مولاي عبد السلام بن مشيش الذي أخرج من مدرسته التربوية الصوفية تلميذا ذكيا ألمعيا خارقا للطبع والعادات، إنه سيدي أبي الحسن الشاذلي المعروف شرقا و غربا، في العالمين العربي والعجمي.

نخلص إلى أن المتصوفة (5)، أهل الترقي في مدارج الإسلام و الإيمان و الإحسان (حديث جبريل المشهور) هم مؤسسو العلم الروحي للإنسان، لما يتوفرون عليه من نظرية تطبيقية في الكمال الإنساني، المعززة بدلائل التجربة والامتحان والتمحيص والمجاهدة. مركزين في ذلك على نقط السر الإلهي في ذات الإنسان، أي الجانب القلبي والروحي لتبنى بين الخلق وخالقه علاقة أساسها الروح وسمو عوالمها، لا الشبح / المادة و طينيتها وانحطاطها.

ليصبح الإنسان كاملا يعرف بالله وعن الله، أي لا يعرف بقوة عقله فقط، بل يعرف عن طريق مجاهير قلبه. و الإنسان الكامل هو الذي يهتم بما يخدم الإنسانية الشاملة ويبنيها لا من يهدم قيمها ويدمرها، وهذا الكمال يدفع صاحبه إلى حب الخلائق والدفاع عن العدل والكرامة والحرية، واضعا نصب عينيه غايته الأسمى "وجه الله عز و جل".

"ولا يسمع كل من يؤرخ -يقول أحمد التوفيق- للمجتمع الإسلامي عامة والمجتمع المغربي خاصة إلا أن يقر ويعترف بأن المتصوفة أطروا الحياة لا في أبعادها الدينية والروحية فحسب، بل في سائر أبعادها الأخرى"(6)، لأنهم يتوضؤون بماء الغيب ويصلون صلاة الفجر في أول العصر وينضحون البر بالبحر.(*)

ومن فتوحات وأذواق العارفين العالية،

قال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه :

صليت خلف سيدي الشيخ أبي الحسن رضي الله عنه صلاة العشاء، فقرأ سورة الشورى، فلما بلغ إلى قوله تعالى "يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور، أو يزوجهم ذكرانا وإناثا، ويجعل من يشاء عقيما"، وقع في نفسى شئ من طريق المعنى، فلما سلم الشيخ من الصلاة قال لي يا أبا العباس:

- يهب لمن يشاء إناثا: أي العبادات والمعاملات.

- يهب لمن يشاء الذكور: أي الأحوال والعلوم والمقامات.

- أو يزوجهم ذكرانا وإناثا: أي يجمع ذلك فيمن يشاء من عباده.

- ويجعل من يشاء عقيما : أي بلا علم ولا عمل.

فتعجبت من ذلك -لأن هذا التفسير هو الذي وقع في طي نفسه أثناء الصلاة-، فقال والله ما هجس في خاطر أحد شئ في تلك الصلاة إلا وقد أطلعني الله عليه .. !

كتاب روض الرَيَاحِيِّن.

انتهى.

هوامش:

- (1) المنقذ من الضلال، تحقيق محمد محمد جبار، ص58.

- (2) شرح الحكم، لابن عباد النفزي، ص49، ج2.-

- (3) شرح الحكم، لابن عباد، ج1، ص40 - 41.

- (4) خزينة الأسرار الكبرى جليلة الأذكار، جمع محمد حقي النازلي،  ص27، نقلا عن السهروردي.

- (5) يعتبر برنامج الموسيقى الصوفية المذاع على قناة (ميدي 1) من البرامج النادرة في هذا الشأن.

- (6) من "تاريخ التصوف بالمغرب" أحمد التوفيق، "الإشارة " ع 1، ص 3، دسمبر 1999.

- (*) مفهوم وركائز التصوف -الشمال ع225 ص18.