على أطراف
مدينتنا الصغيرة، بين صراخ الأطفال وضحكاتهم البريئة داخل المدرسة، وبين رائحة
الكتب الجديدة التي يفترض أن تملأ المكان، هناك مشهد آخر يطغى: كومة من النفايات
المتعفنة، شاهدة على خيانة الجماعة والسلطات المحلية، الإقليمية، وحتى الحكومة
المركزية. هنا، في هذا المكان، لا تُلقى النفايات فقط، بل تُلقى معها وعود
السياسيين، وخطابات المسؤولين، وحتى كرامة المجتمع بأسره.. يقبع هذا الكابوس كأنه
نصب تذكاري لعجز الإنسان عن أن يكون إنسانًا، إنه ليس مجرد كومة قمامة؛ إنه شهادة
صارخة على سقوط الحضارة في اختبارها الأخلاقي الأول : رعاية الأرض ومن عليها ؟
ما معنى أن
نضع قوانين لحماية البيئة، ثم ندوسها بحذاء المصالح؟ ما جدوى الكلمات الطنانة عن
"حقوق الإنسان"، و"التنمية المستدامة"، و"المجتمع
المتحضر"، إذا كان الأطفال يتنفسون سمومًا بسبب نفاياتنا؟ هل فقدنا القدرة
على التفكير؟ أم أن إنسان اليوم، المدجج بالعلم والتكنولوجيا، قد فقد جوهره
الإنساني، وترك قلبه يتعفن مثل القمامة التي يكدسها بلا وعي ؟
الإنسان،
الكائن الذي يدّعي أنه أذكى المخلوقات، استطاع أن يضع رجله على القمر، لكنه عاجز
عن أن يجد حلًا بسيطًا لنقل النفايات بعيدًا عن البشر...دعونا نواجه الحقيقة هل هو
عجز؟ أم أنه اختيار واعٍ لغض الطرف عن المعاناة، لأن المتضررين ليسوا سوى أطفال
صغار لن يستطيعوا الاحتجاج أو رفع قضايا ؟
هذه المفارقة
الفلسفية تكشف لنا طبيعة الإنسان الحديثة: مهووس بالمظاهر، منغمس في عبادة المال و
الجاه و النهب و الفساد، لكنه يتجاهل أساسيات الوجود ،هل نسينا أن الحياة هي جوهر
كل شيء؟ أم أن الأرقام والنسب والمصالح قد أعمتنا تمامًا عن رؤية البديهيات ؟
وما بال
القوانين التي نتغنى بها؟ تلك النصوص الميتة التي تحظر الإضرار بالبيئة، لكنها
تُفسَّر في أروقة الفساد على أنها مجرد حبر على ورق، نحن في زمن لا تُحترم فيه
القوانين إلا إذا كانت هناك كاميرات توثق المخالفات، لكن من يوثق الآلام الصامتة
لطفل يختنق بالدخان الأسود؟ من يحصي الأنفاس المبتورة لرئة صغيرة تحاول النجاة؟
لعل السخرية
الأعظم تكمن في أننا نحن البشر خلقنا هذه المشكلة بأنفسنا، ثم جلسنا عاجزين أمامها
كما لو أنها قوة قاهرة ، هل يُعقل أن من بنى العمارات و بنى فيلات فارهة من النهب
و الفساد ! لا يستطيع إدارة قمامته؟ أم أن المسألة أبسط : لا نكترث، لأننا نحن
المشكلة، الإنسان ليس فقط الجاني، بل هو الجريمة ذاتها، حين يضع مصالحه فوق حق
الحياة ، إنه عارنا جميعًا، عار الإنسانية التي أصبحت تُعرَّف بالهيمنة، وليس
بالحب؛ بالسلب، وليس بالعطاء، نفاياتنا ليست مجرد أشياء مادية، بل هي مرآة تعكس
قبحنا الداخلي: الجشع، الأنانية، وانعدام المسؤولية ...
لكن هل ماتت
الضمائر كلها؟ إذا كنا قد فشلنا كأفراد أو كجماعات في حل مشكلة بسيطة كهذه، فما
جدوى وجودنا؟ أليس الإنسان هو "حارس الأرض" كما يقول الفلاسفة؟ يبدو أن
الحارس قد نام، وترك أبواب الحياة مشرعة أمام الدمار، إذن :
فلنبدأ من
الجماعة تلك الكائنات الغريبة التي لا نراها إلا في موسم الانتخابات، عندما يطرقون
أبوابنا ببدلات أنيقة، ويتغنون بشعاراتهم الجوفاء عن "التغيير"
و"التقدم". أين هم الآن؟ هل دخلوا في سبات شتوي طويل؟ أم أنهم مشغولون
بالتخطيط لمزاد بيع الأراضي التي تتراكم فيها أحلام البسطاء تحت أكوام القمامة؟
أما السلطات
الإقليمية، فهي قصة أخرى من السخرية، تلك الجهات التي تدّعي أنها "اليد
الطولى" في حل مشكلات السكان ! أين هذه اليد؟ هل أصبحت مشلولة؟ أم أنها
مشغولة بالتوقيع على مشاريع وهمية وصفقات تضخّم الحسابات البنكية بدلًا من أن تحمي
صحة الأطفال؟
الحكومة
المركزية ؟ آه، الحكومة! تلك المؤسسة البيروقراطية التي تدعي أنها تمثل الأمة،
لكنها في الحقيقة لا تمثل سوى مصالحها الضيقة، تجتمع اللجان، وتُرفع التقارير،
وتُعقد المؤتمرات، بينما يموت طفل آخر في مدينتنا بصمت بسبب التهاب رئوي ناتج عن
استنشاق سموم النفايات وشلل في أطراف الجسد وأم يلوث حليب ثديها...هل الحكومة
عمياء؟ أم أنها ترى فقط ما يضمن بقائها في السلطة؟
ولا ننسى
الأحزاب والجمعيات و تلك الكيانات التي تتنافس في إصدار البيانات، وتنظيم الوقفات
الاحتجاجية التي تُبث مباشرة على وسائل التواصل الاجتماعي ، أين أنتم من الكارثة
الحقيقية؟ أين جمعيات "البيئة والتنمية المستدامة" التي تتلقى تمويلات
سخية لحماية الطبيعة؟ لماذا تتحول هذه الجمعيات إلى كيانات صامتة عندما تكون
المعركة ضد فساد السلطة؟ أم أن المال يُلجم حتى صوت العدالة ؟
كل هؤلاء
متواطئون بشكل مباشر أو غير مباشر، يكفي أن ننظر إلى حجم التناقض بين تصريحاتهم
وأفعالهم، رؤساء البلديات يتحدثون عن "خطط استراتيجية"، بينما القمامة
تُلقى على مرمى حجر من المدارس، الأحزاب تدّعي تمثيل الشعب، لكنها تسكت عن جريمة
تهدد صحة الأطفال لأنها تخشى فقدان مقاعدها في الانتخابات، الجمعيات تصرخ ضد
الاحتباس الحراري، لكنها تصمت أمام كارثة بيئية وصحية تحدث تحت أعينها !
أيها السادة
في السلطة: أنتم لستم فقط جزءًا من المشكلة؛ أنتم المشكلة ذاتها ! أنتم الجرح الذي
ينزف في جسد هذا المجتمع، عجزكم وصمتكم وتواطؤكم يثبت أنكم لستم سوى طبقة تعيش على
قمة جبل من النفايات، بينما تترك بقية المواطنين يغرق في قاعه !
هذه المزبلة
ليست مجرد كومة نفايات؛ إنها انعكاس حي لمؤسسات متهالكة، أحزاب انتهازية، وسلطة
بلا ضمير. ولكن لا تنسوا، أن أكوام القمامة، مهما تكدست لها حدود ، في يومٍ ما،
ستفيض، وستتحول إلى بركانٍ من الغضب الشعبي، وعندها، لن تفيدكم وعودكم، ولا
تصريحاتكم، ولا حتى كاميرات الإعلام التي تحاول تلميع وجوهكم المتعفنة ..
ندائي الأخير
ليس فقط للمسؤولين، بل لكل فرد في هذا المجتمع: افهموا أن الحياة ليست مجرد عقود
عمل وضرائب تدفعونها وآخرون نهب و اختلاس ... بل مسؤولية تجاه بعضنا البعض وتجاه
هذه الحياة ، إنقاذ أطفال مدينتنا من الموت البطيء بسبب مطرح النفايات ليس مجرد
واجب قانوني؛ إنه اختبار لما تبقى من إنسانيتنا ، إذا كنا عاجزين عن حماية الأضعف
بيننا، فلا جدوى من قوانيننا، ولا جدوى من حضارتنا، نحن بحاجة إلى ثورة، ثورة على أنفسنا
أولًا، لنستعيد معنى أن نكون بشرًا، أما النفايات، فهي ليست في مطرح بجانب المدرسة
فقط؛ إنها في عقولنا، وفي قلوبنا التي صارت أشبه بمكبات فارغة من كل إحساس .
الطفل الذي
يختنق اليوم بدخان القمامة، هو رمز لصوت الحقيقة الذي سيُسمع يومًا ما، وعندما
يحدث ذلك، ستكون أكوام القمامة التي صنعتموها شاهدة على سقوطكم، لأن كل مجتمع يقبل
بهذه الجرائم دون مقاومة، يُكتب عليه أن يُحكم بمن صنعوها ! .