adsense

2023/04/18 - 2:01 م

عبدالإله الوزاني التهامي

إن التعريف بغمارة كمعقل للعلم والجهاد والتصوف والتعريف بها باعتبارها تراثا ضخما ــ هذا التعريف ــ يشكل  إن ترجم في المحافل المختلفة جسرا لحوار حقيقي بين الثقافات وتعايشا عادلا بين الحضارات.

 ولتأكيد أهمية المنطقة من النواحي المختلفة فقد أفرد لها المؤرخون والكتاب حيزا هاما وعلى رأسهم ابن خلدون، وحسن الوزان -ليون الإفريقي-، وذلك لما لها من شأن عظيم في ميادين الجهاد والعلم والتصوف خاصة، ويعزز هذه الحقيقة القولة المثيرة: « إن تربة أرض غمارة ممزوجة برميم الأولياء»، وعلامة ذلك تظهر على ألسنة أهالي المنطقة في لغتهم ولهجتهم التي تشبه «قاموسا صوفيا»، ففي ربوع غمارة يتناجى الغماريون ويتنادون في كل حين صائحين: «أولايلاه» أي يا أولياء الله.. ناطقين بحكم بليغة، وفي كل مشكل أو نزاع ينشب بين اثنين أو أكثر يدعى إلى استحضار والاستغاثة ب«الولي الفلاني» أو «الشيخ الفلاني» حيا كان أو ميتا.. وكذلك القسم والحلف. وقد كانت الممارسة الصوفية اصطلاحا وتطبيقا، هي الشكل السائد للتدين في المنطقة كلها، ومما يضفي على المنطقة طابعها التاريخي في مجال التصوف، كثرة الأضرحة التي تأوي أرواح سالكين وعارفين بالله ذاع صيتهم، ومقابر المجاهدين،  منهم الشيخ الإمام سيدي محمد بن أحمد البوزيدي السلماني الغماري، الشريف الحسني، وضريحه مشهور ببني زيات التيجساسية، حيث يوجد على مرتفع بين قريتي اسطيحات وتزمورت، في موقع جميل وجذاب مطل على البحر وعلى أراضي سقوية شاسعة تظل مخضرة طيلة السنة وتحتوي (الأراضي) على غدران وعيون مائية عذبة.

وشيخنا هذا (سيدي البوزيدي) تفرغ أولا لحفظ القرآن الكريم وتجويده، ثم تجرد للسياحة والعبادة سنين. فلقي بعض الصالحين فقال له: حاجتك بفاس عند مولاي العربي الدرقاوي، فقصده وأخذ عنه، وبقي في خدمته وتحت تربيته نحو ستة عشر سنة، ثم أطلقه من الحجر وأمره بتربية غيره، وشهد له بالخلافة. وقال الشيخ في حق مريده (سيدي البوزيدي): «هو خليفتي حيا وميتا»، وكتب رسالة في شأنه ينوه بقدره، ويحض على تعظيمه ومعرفة قدره، ونصها حسب ما أورده الشيخ أحمد بن عجيبة في «شرح تائية البوزيدي في الخمرة الأزلية»: «إلى كافة إخواننا أهل التجريد الظاهر أهل فاس وغيرهم، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد: فإياكم ثم إياكم من قلب الحقائق، والله ما هي خدمة محمد بن أحمد البوزيدي الغماري لنا إلا لله، والله ما هو عمله إلا لله، ولو كان لغير الله حتى يحيى منها، والله ما خدمنا الله عشر العشر من خدمته، والله ما هو إلا سيدنا كلنا، صغيرنا وكبيرنا أحبننا أم كرهنا، والله لا يتكلم فيه بالسوء إلا فاسق أو منافق، أو مخدوع أو حاسد، أو راض عن نفسه، أو من فيه دعوة نافذة، اللهم ازرقنا ما أعطيته من النية والمحبة والصدق، وبارك في عمره يارب، وارزقنا وإياه الأدب على الأدب حتى نلقاك، يارب، يارب، يارب، يارب، يارب، يارب، يارب (سبع مرات)». ووقع الشيخ رسالته قائلا «وقد كتبه أفقر الورى إلى رحمة مولاه محمد العربي الدرقاوي تاب الله عليه».

وكتب أيضا رسالة أخرى في شأن مريده البوزيدي الغماري المتميز الساطع نجمه، وردت في نفس المصدر، ونصها:

«إلى كافة من بفاس من إخواننا المتعلقين بنا، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وبعد: فقد أجزنا محمد بن أحمد البوزيدي الشريف، فاحترموه وعظموه، ووقروه، وزوروه، واسمعو له إذ هو خليفتنا في حياتنا وبعد مماتنا، رغم أنفسنا، والله ما علمت أحدا من فقراء الوقت يعرف طريق القوم مثله، وأنتم وأنا في أثره لأن شمس سعادته وصلت إلى وسط السماء، وشمسنا وراءه، وقد أحبننا لا بأنفسنا بل بربنا أن يقدم إلى بلده (بني سلمان من غمارة) يذكر عباد الله كسيدي الشاذلي، والله يبارك فيه وفيكم إلى يوم القيامة، وعليكم بالتخلق بالرحمة على الدوام، رزقنا الله ذلك بجاه النبي عليه السلام».ووقع الشيخ رسالته بقوله: وكتب عبد ربه العربي الشريف الدرقاوي لطف الله به.

وأرسل له رسالة أخرى (انظر نفس المرجع ص 15)، قال في أولها: «بعد الحمد لله والتصلية، اعلم يا أخي البوزيدي أن الله قد أعطاك عطاء كبيرا، حيث فقهك في طريق أوليائه، وجعلك من ورثة أنبيائه، صلوات الله عليهم أجمعين، فاشكره». إلى أن قال في آخرها: «وقد أحببنا بحب الله سيدي محمد البوزيدي أن يتهيأ لزيارة والدته وأهله وبلده، وأن يكون على بصيرة في القدوم على أهله، ليقيم بها يذكر عباد الله، والله يا سيدي محمد بن أحمد البوزيدي ما علمت بقيت لك عندي ولا عند غيري ولنا عندك حوائج، بارك الله فيك وفي حوائجك إلى يوم القيامة».

وقال في وسطها: «اعلم يا سيدي (البوزيدي) أن الله علمك علما لدينا إلى يوم القيامة، وعلم أولادك وأحبابك وأهل وقتك على يدك وعلى يد أولادك، وأولادهم وأولاد أولادهم إلى يوم القيامة..».

ولقد شهد مولاي العربي الدرقاوي لمريده «الشيخ» البوزيدي بالفردانية، ققال: «مقام سيدي محمد البوزيدي مقام الأفراد» ص 16 من نفس المرجع. والفرد كما هو معلوم عند أهل الباطن أكمل من القطب في العلم بالله.

بعد نيله شهادات الاستحقاق وأوسمة الامتياز، وهب سيدي البوزيدي نفسه لدعوة الخلق الغافلين إلى طريق الرحمان وسلك أهل العرفان، وكتب في هذا السياق لمريده أحمد بن عجيبة (دفين الزميج بخميس أنجرة)، قائلا: «إن أردت مفاتيح العلم ومخازن الفهوم، فعليك بالقدوم». يقصد القدوم لديه إلى بني سلمان من تراب غمارة.

يتبع...