adsense

2023/04/04 - 11:48 ص


 بقلم عبد الإله التهامي

حظي التصوف منذ سطوع أثره باهتمام كبير من طرف شرائح وعينات من الناس، بدافع الفضول وبدافع البحث في سيرة أهله  لمعرفة الحقيقة.

يقول الدكتور عبد السلام شقور في حوار مع "الاشارة" ع 24، عن بعض ما بني عليه التصوف: "..التصوف موقف فكري، من العالم والأشياء، وهو موقف عمقه الحب، وليس نفورا وزهدا وبعدا. من يحب هذا العالم، فإنه يعمل من أجل تغييره إلى الأفضل. والمتصوفة المغاربة القدامى، كانوا في هذا الاتجاه يحاربون ويجاهدون ويرابطون، والرباط والزاوية صنوان لم يفترقا، بالإضافة الى المحبة والعطف والشعور الإنساني الدافئ. نلاحظ أن الزاوية كانت رباطا للجهاد، إذا تطلب الأمر ذلك، وكانت مركزا يأوي الضعفاء، وتقدم لهم أعمالا خيرية وتربوية جليلة، وكانت في المقابل ملجأ يلجأ إليه الخائف يلوذ بها. وعليه، فإن التصوف مبني على هذ البعد وهذا الحب، حب الأشياء والعالم لا النفور والابتعاد عنه".

  فلا غرو إذن إن أجمع المؤرخون عن الإسلام وانتشاره – بما فيهم المستشرقون – في البقاع والأصقاع المترامية المتباعدة، أن انتشار الإسلام فيها، كان بالأخلاق والسلوك، وطرق المجاهدة أوسع وأكثر من الأماكن التي انتشر فيها بالحرب أو التجارة أو بوسيلة أخرى.

  لهذا أول ما قام به "الوهابيون"، منذ زمن بعيد، التفكير والعمل بجدية، من أجل القضاء على الزوايا، ومحاربة التصوف والمتصوفة الرافعين راية الجهاد ضد النفس الخبيثة وضد المحتلين، بدعوى احتضانها للطقوس البدعية.

وكان منطلق هؤلاء الوهابيين من بلاد سميت فيما بعد ب"السعودية" -تحالف  عائلة "آل سعود" مع محمد بن عبدالوهاب. لتوضع بذلك على الوهابية علامات استفهام مثيرة في علاقتها بالصه-يونية العالمية، إذ ما أصاب "الإنسانية" مؤخرا من عمليات إرهابية ممقوتة يحمل بصمات صه-يونية بلبوس إسلامي، حيث تم توظيف المتطرفين الدينيين لخدمة أجندة أعداء الأمة.

  لهذا لم نكن مخطئين، ونحن في غمرة الحديث عن مؤسسة الزوايا في المغرب (الزاوية الوزانية نموذجا) حينما قلنا بالحرف بأن "ضربتان موجعتان هزتا "المخزون الروحي التاريخي" المغربي هما: الهجمة "الدينية" الوهابية الراديكالية، والهجمة "السياسية" اللائكية المتمردة، لم تسلم منهما مؤسسة الزوايا، باعتبارها حاضنة لهذا المخزون وحامية له في أيامها "المزهرة". (1)

  فها نحن نجني نتائج الهجمة الوهابية، بعدما احتضنتها كثير من الأنظمة للقضاء على الحركة الإسلامية  المعتدلة ذات الجذور "الصوفية" والهادفة الى إقامة مشروع مجتمعي ينبني على الرحمة والنخوة والتسامح والأخوة، مناقض لما هو سائد. وقد أعذر من أنذر.

  يعرف المتصوفة الأقحاح بالسمت الحسن، وشدة الحياء، والذكاء الحاد، والإحساس المرهف، والإيمان عندهم إقرار باللسان وتصديق بالقلب، وعمل بالأركان.

 يعرف الإمام الجنيد التصوف قائلا هو: "تصفية القلوب حتى لا يعاودها ضعفها الذاتي، ومفارقة أخلاق الطبيعة، وإخماد صفات البشرية، ومجانبة نزوات النفس"(2)، أي تحلية وتهذيب النفس بمحاسن الأخلاق، وتخليتها من الأخلاق الممقوتة المذمومة.

  ويقول الجنيد أيضاً: "التصوف ذكر مع اجتماع، ووجد مع استماع، وعمل مع اتباع"(3).

  أي الذكر بكلية، مع اجتماع الهم مع الله سبحانه وتعالى إلى درجة الوجد والوله، والوجد ما يصادف القلب من الأحوال المغنية له عن الشهود، والتواجد استدعاء الوجد، وأما الوله فهو إفراط الوجد.

  يقول معروف الكرخي عن التصوف: "التصوف الأخذ بالحقائق، واليأس مما في أيدي الخلائق"، وأما تعريف السراج فهو جامع لتعريفات مختلفة، يقول في حق المتصوفة: "هم العلماء بالله وبأحكام الله، العاملون بما علمهم الله تعالى، المتحققون بما استعملهم الله عز وجل، والواجدون بما تحققوا، الفانون بما وجدوا، لأن كل واحد قد فني بما وجد"(4).

  التحقق والوصول إلى اليقين، طريق العارفين نحو قصدهم الأسمى الذي لا يمكن للحبيب أن يفارق ببابه محبوبه: إنه وجه الله العظيم الأعظم سبحانه، ولهؤلاء المتصوفة مناهج وأنظمة ورياضات تختلف من مرب إلى آخر، حسب مستوى الشيخ ومستوى مريده، فمنهم من يوجه تلميذه إلى الخلوة، ومنهم من يشير عليه بالاجتماع، حسب المراحل، مراعاة  لماضي وحال ودواخل المريد بهدف رفع الموانع الخلقية، تدرجا نحو الأعلى، بالطريقة العلاجية أو الوقائية المناسبة.

  يقول ابن تيمية مقرا ومعترفا بمكانة العارفين من المتصوفة: "نعم (!) للمؤمنين العارفين بالله المحبين له من مقامات القرب، ومنازل اليقين ما لا تكاد تحيط به العبارة، ولا يعرفه حق المعرفة إلا من أدركه وناله"(5).

  وقال الغزالي: "... علمت يقينا أن الصوفية هم السابقون لطريقة الله تعالى خاصة، وأن سيرتهم أحسن السير، وطريقهم أصوب الطرق، وأخلاقهم أزكى الأخلاق، بل لو جمع عقل العقلاء وحكمة الحكماء، وعلم الموافقين على أسرار الشرع من العلماء، ليغيروا شيئا من سيرهم وأخلاقهم، ويبدلوه بما هو خير منه، لم يجدوا إليه سبيلا، فإن جميع حركاتهم وسكناتهم في ظاهرهم وباطنهم، مقتبسة من نور مشكاة النبوة، وليس وراء نور النبوة على وجه الأرض نور يستضاء به، وبالجملة فماذا يقول القائلون، في طريق طهارتها -وهو أول شروطها- تطهير القلب بالكلية عما سوى الله تعالى، ومفتاحها الجاري منها مجرى التحريم من الصلاة استغراق القلب بالكلية بذكر الله، وآخرها الفناء بالكلية في الله، وهذا آخرها بالإضافة إلى ما لا يكاد يدخل تحت الاختيار والكسب من أوائلها، وهي على التحقيق أول الطريقة".

  فكيف القول إذن في قوم ظواهرهم وبواطنهم مقتبسة من نور مشكاة النبوة الذي ليس بعده ولا قبله ما يستضاء به؟

--

هوامش:

- (1) التهامي الوزاني "الشمال"، عدد 126 ص21.

-  (2) "التصوف والطريق إليه" عبدالرزاق نوفل، ص 15.

-  (3) "الرسالة القشيرية" ص 127، دار الكتاب العربي.

- (4) "تاريخ التصوف الإسلامي من البداية حتى نهاية القرن الثاني"، الطبعة 1، الدكتور عبدالرحمان بدوي، ص 17.

- (5) "مجموع فتاوى ابن تيمية"، كتاب التصوف، ص 74 ، ط 1.

- (6) "جريدة الشمال عدد 224 ص 17.