adsense

2016/06/29 - 3:04 م



بقلم الأستاذ حميد طولست
من الانطباعات الشخصية التي خرجت بها من انخرطي في العمل الحزبي والنقابي  لعقود ، ما شعرت به وأنا أعايش عن قرب فئات عريضة من جماهيرالأحياء الشعبية، التي شاركتني ما نسميه " السياسة " لسنوات كانت كافية لتكشف لي عن عمق تفكيرهم ، وحجم إنتمائهم ، وقدرتهم على التحليل ، ودقة متابعتهم لما يطرح من قضايا ، وتفاعلهم مع وجهات النظر المتنوعة ، ما أكد عندي رقي وعيهم لمصطلح الحزبية والعمل السياسي .
فئات تعيش حياة غاية في المعتاد ، تؤمن إيمانا مطلقا بأن أمرها خير كله مادام تحت رحمة رب العباد، تحلم، تأكل، تتبادل النكات، تواصل الصلاة، والدعاء بالنجاة والرزق الحلال ،  تستاهل من الأحزاب أكثر مما يقدم لها الآن، ومن الظلم أن تظل جل الأحزاب مفصولة ومنقطعة تماما عنها ما عدا أيام الإنتخابات حيث تعاملها ككم إنتخابي ، ومخزن للأصوات التي تتصيدها وتستميلها كلما حان موعد أي إستحقاق أو إستفتاء ، مطبقة شعارها السائد " ليذهب الجمهور إلى الجحيم ومع أطيب المثمنيات بالحرق ، وإلى الإنتخابات المقبلة "  .
فالأحزاب التي عرفتُ بالممارسة و المشاركة والمصاحبة ، لم تستطع بعدُ أن تكون في المستوى الفكري والسياسي المناسب الذي يجعلها تضع الجماهير في اعتبارها وتعمل برغبة عميقة في تنويرها وتغيير حالها وكشف الغم ورفع الضر عنها من خلال تقديرها وإحترام مشاعرها و التجاوب مع مناشداتها والتفاعل مع مصائبها ، بدل أن تعتبرها بسيطة في التفكير فلا تتوجه إليها إلا برسائل موحدة تجعل أسمى أهدافها: الإنتخابات ولا شيء غير الإنتخابات ، رسائل تمرر عبرها أنماطا غريبة من الاهتمامات الهامشية والسلبية التسطيحية بأسلوب ومنهج جذابين .
فعندما نمعن النظر في جوهر العمل الحزبي في بلادنا حيث لا يتورع المتسيسون عن التعامل مع الجماهيرالشعبية  بتعال وترفع على أنهم رعاع لا يملكون أفكارا ، تظهر هذه الأحزاب أقل وعيا بكثير من تلك الجماهير التي تتهم ببساطة التفكر وهيجان العواطف . وندرك لماذا أُفتقدت الثقة فيها وتراجعت وانهارت وتضاءلت وانحسر دورها عن التغيير والتنوير ، ولم تعد بعد قادرة على التأثير في الناس ، وإنكمشت وتهمشت وتركت مساحة التأثير للغلاة من دعات التطرف ؛ فإنحدر عدد الإنخرطات في صفوفها ، وفرغت الندوات والأمسيات في مقراتها ، وتقوقعت المؤتمرات في عدد حضورها. فهجرها الناس ، وزهدوا في الإنصات لكلام قادتها ورؤسائها، الذين عجزوا عن الوصول إلى قلوب وعقول وأفئدة وأخيلة تلك الجماهيرالتي  إستخفت بلأفكار المستنسخة المعادة التي لا تعطي أملا ولا تجفف دمعا ولاتخفف مصابا ، ولا تبدد أتراحا ولا تحل مشكلا تماما كما قال المفكر مجد الجابري (( الأحزاب السياسية في شكلها الراهن أصيبت بالتعفن ولم تعد صالحة للقيام بتربية الجماهير وتجنيدهم لمهام البناء ، بل صارت أداة للتفرقة ووسيلة لإكتساب مراكز شخصية أو الاحتفاظ عليها )) ...
لا أقول أن الجماهير على حق في هذا الزهد في التحزب وهذا النفور من السياسة والسياسيين، ومع ذلك أتعاطف معها كثيرا لما تواجهه في علاقتها مع الكثير من إنتهازيي الأحزاب ،لما  يضمرونه من مشاعر ورؤى غارقة في العقد النفسية النرجيسية تجاههم. في الوقت الذي ينبغي فيه أن يكون التعامل معها على قدر من الإحترام للرأي و رغبة عميقة في التنوير والتغيير من خلال تقديرالمشاعر والأفكار والآراء على اختلافها .. فالأنبياء أنفسهم خاطبوا شعوبهم من دون دونية ولا سخرية منهم أو استهزاء بعواطفهم ، كما قال سبحانه وتعالى في كتابه العزيز "  لو كنت فظا غليظ القلب لإنفظوا من حولك "  صدق الله العظيم .
وهنا كان الادعاء السائد " أن الجمهور لم يستطيع فهم ومسايرة الأحزاب أو أن ثقافته دون فلسفتها " والذي تروج له الكثير من الجهات الحزبية ، عاملة بالمثل الدارجي الذي يقول " عيبك آلولية رديه لي " ادعاء كاذب ، وافتراء كبير، لأن الحقيقة تكمن في أن ما يخرج من القلب مستقره القلب ، والعكس صحيح ، وهو أمر شائع في الحياة العامة ، ويظهر بصورة أكثر شفافية في العلاقات الحزبية ، حيث تلعب المشاعر دورها الأهم في تقبل الآخر لها واستقبالها وتمثلها ، أو رفضها والابتعاد عنها .
ومع كل هذا وذاك ، فالدنيا ما تزال بخير بوجود قلة خيرة في صفوف كل الأحزاب ، تلك القلة التي تسطر بأعمالها الإنسانية النبيلة ومواقفها الوطنية الرائعة أسمى آيات المحبة والوفاء ، والنبل والكرم ، تفريج الكرب ، وتكشف الغم وترفع الضر ، وتبدد اتراح هذه الجماهير الشعبية التي هي في كل الأحوال سند تلك الأحزاب وزادها أيام الإنتخابات حيث تعز الأحزاب أو تهان.