adsense

2022/04/14 - 2:14 ص

بقلم الأستاذ حميد طولست

الفن هو أفضل ما يعبّر عن هندسة الوجود الاجتماعي والثقافي والاقتصادي والحضاري لعلاقة الإنسان بالمكان "المدن" وبنفسه وبالآخرين ، حيث أن غالبية المدن عبر العالم -العربية والإسلامية وغيرها - لم تعرف ، في فترات متباعدة من تاريخ العمران الحضري، إلا من خلال علمائها وأدبائها وأوليائها وفنانيها الذين تشابكت آثارهم وذكرياتهم وسيرهم بشكل لا يقبل الفكاك ، بتاريخ المدن التي عاشوا بها وفيها ،  ما ألقى على غالبيتها من أنارهم الساطعة التي أضاءت زواياها المظلمة ، فغدت مدنا حية متفاعلة على مر العصور، حتى أن القاهرة لم تكن تُستشرف إلا من مرقب نجيب محفوظ ، وطنجة لا تعرف سوى من رحلات ابن بطوطة ، ومراكش من خلال كرامات سبعة رجال، و فاس بالمولى إدريس ، والدار البيضاء بسيدي بليوط ، وكذلك كان حال العديد من المدن الغربية ، فبراغ" ما كانت تذكر هي الأخرى إلا بكافكا، و"بوينس أيرس" لا ترى إلا بعيون بورخيس،

وفي مقابل تلك الرمزية الذهنية غير المرئية لرجالات المدن وعلمائها وأدبائها وأوليائها ، نجد أن الشعوب المتمدنة قد دأبت على ابتكار رموز فنية مرئية وفورية لتكون بمثابة علامات تجارية محدِّدة لدينامية وتقدمية وانفتاحية مدنها ، وربطها بمجموعة الروابط الذهنية والمشاعرية بالأفكار الإيجابية التي تضع تلك المدينة في أفضل الصور المعبّرة عن هندسة الوجود الاجتماعي والثقافي والحضاري العام ، الذي يحوَّل العديد منها ،و في كثير الأحيان ، إلى مدن نابضة بالحياة ؛ ومن الأمثلة على تلك الرموز التي نجحت في تحفيز التفاعل التلقائي بين الإنسان والمكان "المدينة" والآخرين ، شعار مدينة مدريد الذي يرمز للانفتاح والترحيب بكل الزوار والمتمثل في الذراعين المحتضنين لكلمة "مدريد" ، وشعار مدينة ساو باولو الذي يصوِّر كلمة "ساو بولو" وسط مجموعة مبهجة من الخطوط الملوَّنة الرمزة إلى الجو الاحتفالي للمدينة، وشعار مدينة ملبورن الذي يتضمَّن عدداً كبيراً من حرف الـ “M” بجميع الألوان وتدرجاتها الموحية بديناميكية المدينة وتقدميتها وانفتاحتها

مناسبة هذه المقدمة الطللية حول المدينة ، هو مجسم الحوت الكبير المعلق بلا ذوق ولا فنية بسلاسل حديدية فوق مشروع نافورة تتوسط أحد محاور قصبة المهدية ، والذي صادفته خلال تسكعي في الدروب الضيقة المثخنة بالمباني التراثية والمقاهي القديمة لمدينة الهادئة التي قررت قضاء شهر رمضان بها بعيدا صخب المدن الكبيرة .

ذكرني المجسم الذي أثار انتباهي وامتعاضي بمثيليه اللذان سبق ونصبا قبل شهور بمدخل شاطئ المهدية ، واللذان أثارا ضجة عارمة وشجبا صاخبا ضد شكله البعيد عن الفنية والأقرب منها إلى الطفولة الصبيانية ، والمنتهك للخصوصية الهوياتية والانتمائية لسكان منطقة الغرب ، والمهدر للقيمة الحضارية والثقافية لمعالم هذه المدينة الجميلة ، واللذان جرا انتقادات ساخرة على المنتخبين الذين سمحوا بنصبهما في أهم مدار المدينة  التي لم تنل حتى الآن ما تستحقه من الاهتمام بدفين جمالها ، الذي لو تم اكتشاف خبايا كنوزه بكل الثمينة ، لا شك بأن المكافآت ستكون كريمة ومتفاعلة ثقافيا واجتماعيا وسياحيا واقتصاديا على الساكنة والزوار، الأمر المرهون بالمنتخبين الذين لم يريدوا أن يكون لهم دور كبير وفعال في حياة منتخبيهم ، ولم يمارسوا دورهم بفاعلية ودون تحيز أو انعزال أو انحراف واشتغلوا في حدود اختصاصاتهم ، المنحصرة مقاصدها السامية في الارتقاء بمستوى الدوائر التي انتخبوا لتسيير شؤونها ، واستنباط كنوز جمالها الدفين ، بالتنظيف والتشجير والإنارة والحد من سطوة الكلاب الضالة ، بالإضافة طبعا إلى إعادة ترميم المآثر واخراج الأحياء القديمة نمطيتها القاتلة ، باعتبار ذلك فنًا وعنصرًا ثقافيًا فاعلًا وفعالا في حياة الساكنة، بدل الترامي في حماسة انتهازية على مشروع ثقافي لا يعرف كينونته الفنية ولا يملك حوله أي منهج أو هدف حقيقي وواضح المعالم ويهوي به إلى درك السياسة وأضاليل أهلها ، التي تجعل أهدافه تنساق وراء الغوغائية والرطانة ، التي تقف وراء احتضار العقل المعرفي واضمحلال الثقافة عند الشعوب.