adsense

2020/01/22 - 11:08 م


بقلم الأستاذ عبد الغني فرحتي
ما يجري على مدرجات ملاعبنا، خلال الأشهر القليلة، لا بد أن يستوقفنا ويدعونا إلى التأمل واستخلاص العبر. تجاوز الأمر مجرد التشجيع ورفع علامات وشعارات تعبر عن حب الفريق والشغف بالكرة، إلى الهتاف والتغني بمقطوعات تحبل مضامينها بإحالات على الواقع الراهن بكل أبعاده السياسية والاجتماعية والاقتصادية... مضامين تكشف عورات المعيش وتصدح بأناشيد احتجاج على الفساد الذي ينخر كيان البلد والعباد. فكيف يمكن الحديث إزاء هذه الظاهرة عن عزوف الشباب عن السياسة؟ كيف يمكن، والحالة هذه، مسايرة الرأي الذي يزعم بأن شباب اليوم صار ينفر ويبتعد شيئا فشيئا عن السياسة؟ ألا تقدم هذه المقطوعات التي أضحت تتغنى بها الجماهير على مدرجات الملاعب الوطنية الدليل الملموس على الانغماس وحتى النخاع في السياسة؟
  قد يقول القائل بأن العزوف عن السياسة، خاصة في أوساط الشباب، ظاهرة حقيقية تشهد بها المقرات الحزبية التي صارت خاوية على عروشها، مقرات وقد تحولت إلى دكاكين انتخابية، أمست أبوابها تحرسها خيوط العناكب طيلة المدد التي تفصل بين استحقاق وآخر. ما عدا ذلك، "فناموا ولا تستيقظوا". وعوض توجيه الاتهام للذات الحزبية، يتم اتهام الشباب، بالباطل، بهجران السياسية.
 لننصت إلى الجماهير الطنجوية وهي تصيح على مدرجات ملعب طنجة الكبير بصوت واحد:
  " هادي بلاد الحكرة     دموعي فيها سالو   العيشة فيها مرة (.....)
   في موازين شاكيرا      راها نصف مليار    واحنا طلبناها صغيرة  اكويتونا بالأسعار".
   أليس هذا كلام في السياسة؟ إلا يعكس بحق التعبير عن وعي بالواقع ومحاولة للجهر بما يعتري العديد من جوانبه من عتمة وسوء؟.
 وحين نستمع لجماهير الرجاء البيضاوية وهي تتغني بمقطوعة صار صداها يتردد في الأعراس المغربية وعبر قنوات فضائية بل وتنشد حتى في ساحات المدارس الخصوصية، مقطوعة "فبلادي ظلموني"، فإنها هي أيضا تقدم الدليل الملموس على النفس السياسي لشبابنا وهم يوجهون خطابهم لمدبري الشأن العام:
 " مواهب ضيعتوها    بالدوخة هرستوها   كيف بغيتو تشفوها؟ 
  فلوس البلاد كع كلتوها  للبراني اعطيتوها   جينراسيون (جيل) قمعتوها ".
لا يسع المجال للإحاطة بكل مضامين هذه المقطوعات الغنائية بل إن الهدف من الوقوف عند بعض مقاطعها هو إبراز أن شبابنا لم ينقطع مطلقا عن السياسة. وإذا كان هناك عزوف، كما يحلو للبعض أن يردد، فذاك ليس عزوفا للشباب عن السياسية بل هو في الحقيقة عزوف للأحزاب السياسة عن ممارسة السياسة بمعناها الحقيقي والراقي. علي الأحزاب وكل مؤسسات الوساطة (أحزاب/ نقابات/ جمعيات..) أن تسائل نفسها: " ما هو العرض السياسي التي تقدمه وتريد من شباب اليوم أن ينخرط فيه؟ فكثير من الهيئات السياسية الوطنية صار لها مقرات ضخمة وفي حلة حديثة لكنها، وللأسف تشكو من ضعف أنشطتها وغياب الحركة في أرجائها، على الرغم من الدعم العمومي المتزايد التي صارت تحظى به. هناك أحزاب تاريخية عوض أن تنشغل بتعميق وتقوية امتدادها الجماهيري داخل القوات الشعبية، صارت مرتعا لصراع الزعامات والتهافت على المناصب وتوزيع كعكعة الريع الحزبي على المقربين.
خلال افتتاح الولاية البرلمانية الثالثة خلال أكتوبر الماضي، تضمن الخطاب الملكي إشارات قوية بضرورة الانفتاح على كفاءات وطاقات شابة في أفق بلورة النموذج التنموي الجديد. وكان من المفروض أن تستلهم الهيئات السياسية الإشارة وتبادر، على سبيل المثال، إلى برمجة أبواب مفتوحة، تكون مناسبة مواتية لتعريف الشباب بهويتها وتاريخها ورجالاتها وبرامجها ورؤاها للمستقبل سعيا منها إلى توسيع قاعدة منخرطيها. غير أن ذلك لم يحدث. 
 من هو إذن العازف عن السياسة؟ هل الشباب الذي أبدع تلك المقطوعات التي صار تتغنى بها حناجر الألاف حتى من خارج الوطن أم أن العازف الحقيقي عن السياسة هم هذه الهيئات السياسية التي حول زعماؤها الحاليون مقراتها الفسيحة إلى أمكنة يقتلها الفراغ ويستبد بها الشلل؟