adsense

2019/08/15 - 9:53 ص


بقلم الاستاذ عبد الغني  فرحتي
                                  ( استلهام لواقعة حقيقية )
 من المعلوم أن المغرب المستقل ورث من نظام الحماية الفرنسي الاعتماد على "المقدم" و " الشيخ ". كانت من مهامهما رصد حركات المغاربة عبر كل ربوع البلاد والتجسس على رجالات الحركة الوطنية وعلى كل من يقدم لهم الدعم والمساندة. بعد الحصول على الاستقلال، واصل المقدم القيام بأدوار كثيرة لصالح الإدارة الترابية. فقليلة جدا هي الوثائق والخدمات التي يحتاجها المواطن من الإدارة المغربية والتي لا تحضر فيها "بصمة" المقدم أو الشيخ.
 لا نتوق إلى حصر هذه المهام ولا إلى الحديث عن آثارها، سلبا أو إيجابا، على المواطن، بل سنحاول الوقوف عند سؤال يفرض نفسه خاصة والمعاملات بين الأفراد والمؤسسات أصبح يطغى عليها البعد الرقمي. إضافة إلى أن من الأهداف التي كانت حكومة التناوب قد رفعتها، الوصول إلى الإدارة الذكية سعيا وراء تخليق الحياة العامة وضمان السرعة والحكامة في الإنجاز.
 لكن الطموح إلى تحقيق الإدارة الرقمية يطرح سؤالا يتعلق بالمقدم: في ظل الإدارة الذكية، هل يبقى للمقدم من دور يقوم به؟ إذا كان مثلا المواطن الذي يحتاج من الإدارة إلى وثيقة ما، يكفيه الإبحار عبر شبكة الانترنيت وعبر البوابات الإلكترونية للإدارات المختلفة والضغط على الأزرار وأداء تكلفة الإنجاز ببطاقته البنكية، فإن ذلك قد يعني أن وظيفة المقدم تسير في طريق الانقراض؟ حتى الوظائف ذات الطابع الأمني والاستخباراتي، ربما ستتكفل بها الأدوات التقنية المتطورة، من كاميرات ومراقبة لاتصالات الفرد مهما تعددت أشكالها.
 بلا شك، الموضوع شائك ويحتاج إلى الدراسات المعمقة، غير أن ما دفعني لإثارته، وأقول إثارته فقط، (ربما أتيحت فرص أخرى للعودة إليه) هو متابعتي، عن بعد، لنقاش كان يدور بين شباب يبدو أنهم طلبة جامعيون وبين مقدم تجمعهم وإياه صداقة منذ الطفولة. الشاب المقدم كان يضع أمامه حاسوبا صغيرا، يبدو من طريقة اشتغاله به أن له إلمام بمجال المعلوميات. أصدقاؤه، مازحين، واجهوه بالقول:
ــ " أنت وأمثالك، ستصبحون عما قريب " كائنات منقرضة ". لن يبقى لكم دور في زمن الرقمنة والإدارة التقنية. لن تبقى للإدارة حاجة بكم. أليس كذلك؟".
 ضحك المقدم ضحكة ساخرة وماكرة، ثم أجاب:
ــ " والله أنتم مغفلون. مهما حصل من تطور في الوسائل والخدمات، فستبقى هناك مهام عديدة لن تستطيع هذه الوسائل أبدا القيام بها. تعرفون أن المقدم ينبغي أن يكون رهن إشارة الإدارة في كل زمن وحين. لذلك سوف لن أطيل معكم الكلام. سأعطيكم مثالا عن حالة لا يمكن أن تدركها إلا عين المقدم التي لا تنام. وما دمنا في عيد الأضحى. في ذاكرة حاسوبي هذا، وبشكل استباقي أحيانا أتولى تهيئة ملفات ومعلومات تخص سكان الأحياء التي أشرف عليها. أهيئ ملفا حول الأسر التي لا تتمكن من اقتناء أضحية العيد. أعرف عددهم بالضبط. أكثر من ذلك. هناك أسرة تسكن فوق دكان الإسكافي القريب من المسجد، منذ سنوات وهي لا تتمكن من شراء كبش الأضحية. الأم الأرملة والتي تجلس بمدخل الحمام، تبيع بعض اللوازم (كيوس تهيئها بيدها وصابون بلدي وغير ذلك) لتضمن قوت أطفالها الثلاثة.
 اعتاد جيرانها غياب هذه الأسرة عن البيت أيام العيد، فالأم كانت تدعي أنها تسافر إلى منزل العائلة بالبادية لإحياء العيد هناك. وحدي أنا، من اكتشف  أن هذه مجرد كذبة بيضاء، أما الحقيقة فهي أن هذه الأرملة تأخذ ليلة عيد الأضحى من كل سنة أطفالها إلى سيدي حرازم بضواحي فاس، يقضون الليل في الهواء الطلق وتغري أطفالها بأنها ستمكنهم من الاستمتاع بمياه المسبح طيلة أيام العيد. هذه السنة، ونحن على بعد ثلاثة أيام من العيد، تيقنت أن الأسرة ستواجه نفس المصير. بالله عليكم، هل الوسائل الرقمية يمكن أن ترصد مثل
هذه الحالات؟".
  ظهر التأثر واضحا على الجلساء وهم يتابعون حديث صديقهم "المقدم" الذي بدا كالمنتصر . أما أنا فقد تركت الجماعة تواصل نقاشها. شكرت، في نفسي بطبيعة الحال، السيد المقدم على الحقيقة التي كشف عنها لي من غير أن يدري، بخصوص الأسرة البئيسة، بخصوص هذه الأم البطلة، التي رغم ظروفها القاسية، لم تختر الحل السهل، ولم تخرج للتسول الذي أصبح للأسف حرفة لها محترفون، بل اختارت أن تضمن قوت أطفالها من عرق الجبين وبالحلال الطيب. بالصدفة كنت أعرف محسنا من المحسنين الذي يتبرع بالأضحيات للمحتاجين الحقيقين. نهضت مسرعا لأتأكد من مقر سكنى هذه الأسرة: "فوق الإسكافي الموجود بالقرب من المسجد". أرسلت سيدة لاتصال بالسيدة الأرملة للتأكد من وجودها بالمنزل ومن حالتها وإشعارها بأنها ستحصل على خروف العيد.
   بسرعة فائقة كان الخروف يثغو ببيت الأسرة والفرحة تغمر الأم قبل أطفالها. لا أدري هل واجب الإحسان هو الذي دفعني إلى التحرك بهذه السرعة القياسية أم أن ما كان يحركني أساسا هو رغبتي في أن يخيب ظن المقدم، هذه المرة، حين سيجد نفسه مضطرا إلى تصحيح المعلومات التي يجمعها عن ساكنة الأحياء التي يشكل هو فيها عين السلطة التي لا تنام.