adsense

2020/03/23 - 4:13 م

بقلم عبد الغني فرحتي    
وجد أيوب نفسه ملزما بالخضوع لإجراءات الحجر الصحي المفروض في البلاد منذ أيام والهادف لتطويق وباء كورونا المستجد الذي اكتسح العالم منذ أسابيع. وقد يسرت له طبيعة المهنة التي يزاولها كمدير لمكتب للمحاسبة، أن يباشر نشاطه اعتمادا على حاسوبه، انطلاقا من مقر سكناه. غير أن الحاجة إلى اقتناء مواد غذائية من بقال الحي الذي ظل مفتوحا، دفعته إلى الخروج. بسرعة أخذ ما يحتاجه وقفل عائدا إلى البيت.
 لكن، وهو في طريقة عودته، لمح نورا يشع من أسفل باب صالون للحلاقة لم يكن مغلقا تماما. تردد أيوب كثيرا قبل أن يدفعه الفضول إلى طرق الباب خاصة حين ترامت إلى أنفه رائحة ليست غريبة عنه. فالحلاق لم يكن سوى صديقه سفيان.
ــ " سفيان، سفيان، هل أنت هنا؟"
ــ " نعم، أيوب، ارفع الباب قليلا وادخل".
ولج أيوب المكان الذي كان ينير أرجاءه ضوء خافت، انعكاسه على المرايا التي تزين الصالون، يضفي على هذا الفضاء طابعا شاعريا. كان سفيان صحبة جار لهما جالسين تتوسطهما زجاجة نرجيلة. كان يدخنان "الشيشة".
ــ " بالله عليكم، ماذا تفعلون؟ الشيشة، ألا تخافون العدوى؟ أنتم تلعبون بالنار بكل تأكيد".
ــ " خلاص، خلاص، أيوب، أنت ديما كتعقد الأمور. لسنا أغبياء. نأخذ كل الاحتياطات. لا بد من الرأس يدور "والراس لي ما كيدور كدية. أنت تعرف ذلك"، رد سفيان منتشيا.
 هم أيوب بمغادرة المكان قبل أن يجد نفسه تخترقه رغبتان: تكسير النرجيلة التي عبأها سفيان ودعاه لتناولها وبين الاستجابة له وسرقة لحظة من المتعة في خضم هذه الأجواء الكئيبة التي يمر بها العالم. أخيرا، وما دام أن أيوب كان يتعاطى من حين لآخر لهذه العادة، وجد نفسه للحظات يستنشق المعسل وينتشي بمفعوله. نسي التدابير الاحترازية ونسي أنه قد يعرض نفسه وغيره للخطر.
 غادر الصالون تتأرجح نفسيته بين الارتياح لما فعله وبين القلق مما يمكن أن يكون له من تداعيات.
 مرت ثلاثة أيام ونشاط سفيان يتوزع بين الانهماك في تهيئة البيانات الحسابية لزبنائه وبين متابعة ما يستجد من أخبار حول الفيروس اللعين. في الصباح الباكر من اليوم الرابع، أخذ القلق يجتاح شيئا فشيئا نفسية أيوب. فقد كان نومه خلال الليلية المنصرمة متقطعا بسبب الاختناق الذي بدأ يشعر به ويمنعه من الاسترسال في النوم. ناهيك عن السعال والشعور بالتعب. بادر إلى استعمال بعض الأدوية المعتادة وهو يمني النفس أن يكون ما يشعر به سحابة عابرة. غير أن الحالة لم تزد إلا سوء خاصة بعد أن لاحظ أن ما يعتريه من أحوال يشبه الأعراض التي تظهر على المحتمل إصابتهم بالعدوى.
 حارت به الأذهان وفقد البوصلة. لم يستطع البوح بشيء لزوجته. خاف عليها وخاف على أطفاله الثلاثة. أخيرا، وقبل أن يستفحل الأمر، اتصل بصديق له، وهو طبيب بمستشفى عمومي الذي دعاه إلى الحضور سريعا للخضوع للكشف والتحليلات اللازمة.
وفي انتظار النتائج، تقرر الاحتفاظ به بالمستشفى في جناح العزل الطبي مع إخضاع كل من خالطهم خلال الأيام الأخيرة للكشوفات الطبية.
في خضم عزلة تكاد تكون تامة، مستلقيا على السرير ومشدودا إلى كثير من الأسلاك والأجهزة الطبية، انطلق أيوب، كمحاولة لمواجهة القلق والشعور بالملل، يغوص في ذاكرته.
" أعرف، منذ طفولتي، وانا "كعرار" أجدني دائما مدفوعا في النقاش مع رفاق الدرب، مع رفاقي في الدراسة، مع زملائي وأقاربي.. إلى ركوب موجة الرفض والمعارضة". بعد لحظات من الأنين الذي تفرضه الحالة، يواصل أيوب مخاطبا ذاته:
" دأبت على ألا أرى من الكأس سوى الجزء الفارغ. لم يسبق أبدا أن أعربت عن تثميني لكل الجهود والمنجزات التي تحققها الدولة ويحققها زملائي وأصدقائي. كنت دائما أشكك في كل ما يعلن عنه من تدابير. آه، حتى حين أعلن عن ظهور وباء كورونا، استكنت إلى التفسير الذي أدمنت عليه هو أن الأمر يتعلق مرة أخرى بمؤامرة دولية ينسج خيوطها الكبار، وأن المسألة لا تعدو أن تكون إشاعات مغرضة لبث الفزع في نفوس الناس ومضاعفة أرباح الشركات الكبرى المتخصصة في إنتاج الأدوية واللقاحات".
يسرق أيوب لحظات للاستراحة قليلا وتجديد طاقته على مواصلة هذا الحوار الداخلي. وكلما سمع خطوات تقترب من "السجن" الطبي الذي يوجد إلا وتسارعت نبضات قلبه خوفا من سماع خبر، ربما يكون وقعه كالصاعقة.
" سنوات وأنا أتعاطى للشيشة. صحيح أني لم أكن من المدمنين العتاة ولكن، مع ذلك، كنت أخال هذه العادة تعطينا قسطا من المتعة والنشوة. كنت أقلق كثيرا حين أجد نفسي أتقاسم نفس النرجيلة مع زمرة من الأصدقاء بل حتى مع غرباء. كنت أوهم نفسي أنه لا خوف علي. فأنا آخذ ما يلزم من الاحتياطات. كم كنت غبيا، آه كم كنت غبيا".          يتبع..