adsense

2021/01/29 - 11:39 م

بقلم عبدالحي الرايس

ولفظُ الاستدامة في بَدْء تداوُله أثار بعض الإشكال: فقبْلَ اهتداءِ المُنتظَم الدَّوْلي لرفع شعار "التنمية المستدامة" الذي سَتُشْتق منه "المدينة المستدامة" لم يكن اللغويون عندنا يُردِّدُونَ ويقبلونَ غيرَ لفظِ المُسْتديمة، ثم تنبهوا إلى أن استدام قابلٌ للزوم والتعدية، فهو يأتي بمعنى دام، ومنه مُستديمة، والطاقات المتجددة كالشمس والهواء وتدفق المياه طاقات متجددة لذاتها فهي مستديمة، ولكن الطاقات الأحفورية، والتنمية، والمدينة، وغيرها مما يخضع لتأثير الإنسان، ولا يكون له نموٌّ ولا استمراريةٌ من غير تَدَخُّلِه، فهو مُستدام، والمرجعية تصير (أدامَه واستدامَه)، وصارت المفارقة والممايزة واضحة، فما يستديم لذاته فهو دائم ومُستدِيم، وما يخضعُ لمُؤثر خارجي فهو مُستدام.

ولاِسْتدامةِ المدن مُستوياتٌ ومراتبُ في سرعة التكيف والملاءمة: فهي مُتسارعة، وسريعة، ومُتأنية.

ـ والاستدامةُ المتسارعةُ لا تكونُ إلا لمدينةٍ يقظةٍ ذكية، تتجاوزُ ذاتها باستمرار، تستجيبُ للحاجيات، وتتحسَّبُ للتغيرات والمفاجآت، تستحضرُ الآفاقَ والغايات، ولا تتوانَى في تحقيق الأهداف، واتخاذِ القرارات، وتحيينها وتعديلها عند الضرورة والمستجدات.

والأبحاثُ العلميةُ مُوَجِّهَة، وتقنياتُ العصر مُسْعِفَة، وتَعْبئةُ المواردِ مُنْجِدَة.

والتسارُعُ لا يتأتى إلا بخبرةٍ ناضجة، ورُؤيةٍ ثاقبة، وقرارتٍ حازمة، من ذلك مدنٌ أمَّنَتْ تجهيزاتها التحتية، وحققت توازناتها البيئية، وطورت خِدْماتها الإدارية، وأرْسَتْ تقاليدَ الديمقراطية التشاركية، وقرَّبتْ موعدَ التخلص من الطاقة الأحفورية، وتعميم وسائل النقل العمومية الكهربائية، بتذكرة ذكية في تنوُّعٍ وتكاملٍ ودقةِ مواعيد، أمَّنت الولوجيات، ويسَّرتْ مسارات الدراجات، وعدَّدتْ فضاءاتِ المُشاة ومستعملي وسائل التنقل الناعمة، ووفرت التحفيز المادي على اقتناء الدراجة الهوائية إلى حدِّ أن صار لها شعاراً: اقض حاجتك بالمدينة في ربع ساعة.

ـ والاستدامةُ السريعةُ تكونُ لِمُدُنٍ تُراهن على التغيير، وتسعى إليه، وتحث الخطى للحاق بركب المدن الرائدة، وتعملُ على إنضاج الرؤية، وتيسير الأسباب، وتحرص على تفعيل الحكامة، وإشراك السكان.

ـ أما الاستدامةُ المُتأنية، فهي لِمُدُنٍ تكتفي بترديد شعارِ الاستدامة، تُراوحُ مكانها، وتستكينُ لحالها، ولا تستعجلُ التغييرَ والتأهيل، ينفردُ مُدبِّرُوها بالقرار، وتُطيلُ انتظارَ الظروفِ المُواتيةِ للانطلاق.

وهي محكومة بإنْضاجِ رُؤية، وتعبئةِ إمكانيات، وترشيدِ مَوارد، وتسريع مُبادرات، في إطار تواصل مُثمر مع السكان، أو الاستسلام لمزيد من الفوضى والترييف والتلويث، وتهاوي المنشآت والبنيان.

وآفةُ العصر تغيُّراتٌ مُناخية مُتلاحقة، ونسبةُ سكانٍ في المُدن مُتزايدة، وظاهرة التلوث مُتفاقمة، وآفاتُ الأوبئة والحوادث مُفاجئة.

 فما لم يتمَّ التحسُّبُ والتعبئةُ والتصدِّي، فلن يكون المآلُ غيرَ مزيدٍ من التردِّي.

والاستدامةُ لا تتحققُ بالانتظار والتمَنِّي، إنما بالعمل المتبصِّرِ الجادِّ، ورفعِ التحدِّي.