adsense

/www.alqalamlhor.com

2025/07/07 - 11:46 ص

بقلم الأستاذ حميد طولست

"سألني أحد الأصدقاء – تساؤل العارف لا الجاهل – كيف يفكر إسلاميو العدالة والتنمية؟ كيف يُلدغون من الجحر نفسه مرتين؟ وكيف يسقطون في فخ التطبيع مرتين: مرة مع إسرائيل، وأخرى – أقل صخبًا، لكنها أشد خطرًا – مع إيران؟"

هذا السؤال البسيط، في ظاهره، يختزل مأساة فكرية وسياسية يعيشها الإسلام السياسي في المغرب، ويُجسد الازدواجية القاتلة التي قادت حزب العدالة والتنمية إلى منحدر التآكل الداخلي والتفكك الأخلاقي والسياسي.

التطبيع الأول: حين عضّتهم إسرائيل

لم يكن تطبيع العدالة والتنمية مع إسرائيل مجرّد سقطة سياسية، بل كان انقلابًا كاملًا على كل ما ادّعاه الحزب لعقود. يومها وقعوا على الاتفاق الثلاثي دون شروط، وباركوا انخراط المغرب في دينامية إقليمية جديدة، لاعتبارات سيادية واستراتيجية.

لكن الصدمة لم تكن في قرار الدولة، بل في موقف الحزب نفسه: بين تبرير سياسي جبان، ومناورة خطابية تافهة، انهارت شعبيته في الشارع، وظهر عارياً أمام قواعده التي طالما بايعته تحت راية "الاستثناء الأخلاقي".

التطبيع الثاني: حين ارتموا في أحضان طهران

الخطأ الثاني، وربما الأكثر خطورة، لم يكن أمام إسرائيل هذه المرة، بل خلفها... في طهران.

في لحظة عاطفية استغل فيها الحزب مأساة غزة، حاول استعادة شعبيته عبر التلاعب بالوجدان الشعبي، متقمصًا دور "حزب المقاومة"، وبدأ حملة إعلامية وسياسية لتخوين الدولة، واتهام خصومه بالخيانة، وتقديم نفسه كصوت الضمير الفلسطيني.

لكن خلف الستار، كانت البوصلة قد انحرفت. المشروع الإسلاموي الذي طالما ربط ولاءه بتركيا، غيّر الاتجاه نحو إيران، بتوجيهات غير بريئة من الدوحة، راعية الأيديولوجيا العابرة للحدود.

إيران، فجأة، تحولت إلى "رمز المقاومة"، وأبطال الحرس الثوري صاروا "شهداء"، وجرائمهم في سوريا واليمن ولبنان صارت "أكاذيب صهيونية". تحولٌ صادم لمن كانوا يرفضون مجرد المصافحة مع رموز هذا النظام قبل سنوات.

ما لا يريد كثيرون الاعتراف به، أن حزب العدالة والتنمية اليوم لم يعد يمتلك قراره. لم يعد حزبًا مغربيًا بمرجعية إسلامية، بل أصبح ذراعًا لحلف إعلامي-ديني تموله قطر، وتغذّيه الجزيرة، وتمنحه الشرعية من "اتحاد علماء المسلمين".

إنه مشروع عابر للأوطان، بلا هوية وطنية، ولا ولاء حقيقي، ولا مشروع واضح سوى البقاء في المشهد بأي ثمن: مرة بالابتزاز العاطفي، ومرة بالمزايدة الدينية، ومرة بتخوين من يخالفه.

لكن لعبة التبعية هذه مكشوفة، والتقلبات الإقليمية أحرجت حتى من حاولوا تبريرها.

فتركيا انسحبت من اللعبة، وصالحت الإمارات والسعودية، وفتحت قنواتها مع السيسي. والسعودية هجرت الوهابية، وإيران تعاني من الاحتراق الداخلي، وقطر نفسها أُجبرت على تغيير خطابها. فلم يبق إلا العدالة والتنمية... يُغرد في فراغ إعلامي يثير السخرية أكثر مما يستفز الغضب.

هذا التناقض الفج، وهذا التذبذب المستمر، خلق شرخًا حقيقيًا في القاعدة الاجتماعية للحزب. ارتباكٌ واضح، انفجار داخلي في لغة الخطاب، وهستيريا لغوية في الفضاءات الإسلاموية: سب، شتم، تخوين، واتهام لكل من يجرؤ على السؤال أو التفكير.

ولأن التطرف لا سقف له، بدأ الخطاب يقترب من مناطق خطيرة: دعم للقتلة باسم "الممانعة"، تبرير للتوسع الإيراني باسم "القدس"، وجعل كل اعداء المغرب إخوة للمغاربة ، وأحيانًا صيغ من معاداة السامية العلنية لا تليق بحزب كان يدعي الاعتدال والوسطية.

كان بإمكان العدالة والتنمية أن يختار طريقًا آخر: أن يتحول إلى حزب وطني بمرجعية إسلامية، يدافع عن قضايا بلده، يراكم رصيده بالعمل ضد الفساد، ويقف مواقف متزنة من القضايا الدولية، كما فعل أردوغان نفسه وهو يطبع مع إسرائيل ويتعامل مع الناتو، دون أن يتخلى عن استقلال قراره الوطني.

لكن الحزب اختار غير ذلك: اختار التطرف، الابتزاز، وتغذية الخطاب الديني العابر للقارات، ظنًا منه أن هذه الوصفة السحرية ستُعيده من جديد.

إلا أن هذا الخيار قاده إلى العزلة: عزلة عن الدولة، عن المجتمع، وعن حتى بعض مناضليه الذين بدأوا يشككون في كل شيء.

العدالة والتنمية لم يُلدغ من جحر التطبيع مرتين فحسب، بل اختار بنفسه أن يعود إلى الجحر، وأن يلدغ نفسه، وأن يُمعن في ذلك.

وما كان هذا المسار ليبلغ هذا المدى، لولا شخصية أمينه العام الحالي، الذي يخلط بين معاركه الشخصية مع الدولة، ورغباته النفسية في الانتقام، وبين مستقبل حزب يعيش احتضاره الأخير.

فهل يتدارك بعض "العقلاء" ما تبقى؟ أم أن خطاب الحرق والتخوين والانفعال سيدفع الحزب إلى نهايته المحتومة؟

الجواب واضح في الأفق... والأيام كفيلة بتأكيده