adsense

2023/02/21 - 11:21 م

بقلم امال بنعبد الرسول

 الصراع ضد الوحدة

 بين الخضوع للكشوفات والتحاليل، وبين التدابير الصارمة والمعقدة التي كانت تمهد لعملية زرع النخاع ــ وعلى الرغم من المجهودات التي مانت الطيبتان ليلى ولبنى تبذلانها من أجل تشجيعي ورفع معنوياتي، وإحاطة بنوع من الأنس ــ كنت أشعر بالوحدة. فكثيرا ما كنت أمكث، طوال اليوم، داخل العرفة، وكأنني في سجن انفرادي.

أحيانا، ومن أجل قهر الملل والرتابة، أتوجه بالنظر من النافذة بحثا عن شيء من الدفء والسلوى. كان أول ما يتراءى لي، أشجار متكاثفة الأغصان، وارفة الظلال. أحيانا تستضيف أنواعا من الطيور، ومنها الحمام. كثيرا ما كنت أرتاح لهديله. كنت أحس وكأنه، بصوته الذي أخاله حزينا، يتعاطف معي في هذه المعركة التي أخوضها في مجابهة الداء. لكن سرعان ما أتذكر الشاعر الحكيم أبا العلاء المعري الذي كان قد تأمل هديل الحمام متسائلا عما إذا كان تعبيرا عن الفرح أم الحزن:

أبكت تلكم الحمام أم غنت    على فرع غصنها المياد؟

أتأمل السؤال الفلسفي الذي يثيره المعري، وأهمس في نفسي: يظل صوت الحمام هو هو، لكن نوعية الشعور والوضعية التي نكون عليها عند سماعه، هي التي تجعلنا نكسبه معاني الفرح أو الحزن.

أحيانا أخرى، وهروبا من الشعور بالوحدة والملل والخوف من الآتي، أجد ملاذي في الغوص في ذاكرتي، فيتوالى بعض ما تختزنه من أحداث وتجارب أمامي. ويبقى من أبرز ما أستحضره، وربما الوضعية التي أوجد عليها تفرض ذلك، ما كان يحدث خلال تلك الأيام التي قضيتها بجناح الطب الباطني بالمركب الاستشفائي.

لقد سبق أن أشرت إلى أن الغرفة حيث كنت، كان يشاركني الإقامة فيها مريضات أخريات.  من هؤلاء، لا يمكن أن أنسى ما حييت شابة كانت تنحدر من شمال المغرب. كانت المسكينة مصابة بالتصلب اللوحي، وكانت عاجزة ومعاناتها مع المرض تفوق كل وصف. كانت، بقدر ما تشتد عليها الآلام، بقدر ما كانت تحافظ، رغم كل ذلك، على البشاشة وخفة الروح. لذلك، كنت ألقبها " البطلة "، وكانت هي تناديني " يا غالية ". أتذكرها، وأتذكر والدتها العظيمة التي كانت ترعاها وتستجيب لكل طلباتها وحاجياتها، في صبر وأناة. لم يسجل عليها، ولو لمرة واحدة أنها اشتكت أو تذمرت. كنت أراها تجسد بالفعل تلك الأوصاف التي تعطى للأم، وخاصة وصفها بالشمعة التي تحترق من أجل أن تضيء للآخرين. بعد أيام، وهي تصارع المرض بكل صمود وجلد، ستلبي روحها نداء خالقها، تغمدها الله تعالى بموفور الرحمة والمغفرة، وألهم والدتها الطيبة العظيمة وذويها الصبر والسلوان.

أعترف أني كلما استبد بي الضيق وأحسست بتراجع منسوب الصبر والأمل، أتذكر هذه الشابة التطوانية، رحمها الله. هي بالفعل قدوتي في الصبر والتحمل.

لا بد أن أشير أيضا بأن ما كان يساهم في التخفيف عني من الشعور بالوحدة والملل واليأس، الزيارات التي كان يقوم بها أفراد أسرتي، وخاصة زوجي الذي كان ينقل لي بعض الحاجيات والمأكولات، على الرغم من كون ما يقدمه المستشفى كان يفي بالضروريات وأكثر.

لقد كنت ملزمة باتباع نظام غدائي صارم خال من السكريات والنشويات واللحوم بكل أصنافها، إضافة إلى المعلبات. كانت التوجيهات تقتضي تناول السمك وزيت الزيتون والعصائر والقطنية الغنية بالألياف. وكان القصد من ذلك، عدم تزويد الداء بما يمكنه أن يزيده نموا واستشراء. 

في ليلة من الليالي، وأنا متمددة على سريري، استنطق ذاكرتي لتبوح بما يمكن أن يؤنسني في وحدتي، بعد أن خاصم النوم أجفاني، إذا بالضجيج يكسر الهدوء الذي كان يعم المكان. تداعى إلى مسمعي صوت يستغيث بالطبيب. أمام جهلي بما يدورـ انتابني الشعور بالخوف والتوتر، توتر تضاعف حين علمت بأن مصدر الصوت والأنين هو مريض، أصيب بنزيف، والسبب يعود لكون جسمه لم يقبل ولم يتفاعل إيجابيا من النخاع المزروع.

في إطار مسلسل التحاليل والكشوفات التي كنت أخضعها، والتي كانت تشمل حتى الكشف على الأسنان. وذات صباح، وأنا متوجهة للكشف بالسكانير، عبرت عن فرحتي وسروري، لأنها فرصة مناسبة لاستنشاق الأكسجين في الهواء الطلق. فما كان من أحد الممرضين الذي كان يقودني نحو مكان الكشف إلا أن خاطبني مازحا: " يالله، خذي التعبئة الكافية من الهواء". أدركت حينها فيض نِعَم الله تعالى التي نستمتع بها في حياتنا ونحن عنها غافلون.

أخذت ساعة الحسم تقترب، وبدأ العد التنازلي للقيام بعملية الزرع. كان من المؤشرات على ذلك، أن فرض عليَّ تناول الثلج. وتبقى الغاية من ذلك، ترطيب الفم والجهاز الهضمي، تفاديا لما يمكن أن يكون للشيميو الذي سأخضع له، من آثار سلبية.

كانت بالفعل، لحظات قاسية ومريرة. كان طعم الثلج لا يطاق. صارت نفسي تنفر منه، بل يصيبني التقزز والاشمئزاز لمجرد ذكر كلمة ثلج. أكثر من ذلك، سأجد نفسي أصرخ في وجه الممرضة رافضة أخذ المزيد منه. حضرت الطبيبة لإقناعي مؤكدة أن تناول الثلج لا مفر منه، لأنه يلعب دورا أساسيا في التخفيف من الآثار الجانبية للشيميو، خاصة وأن قوته وشدته ووقعه على الذات عشرة أضعاف، مقارنة مع ما كنت أخضع له من قبل. فضلا عن هذا وذاك، سيكون من انعكاساته أنه سينزل المناعة للصفر، وسيصبح جسدي مهددا ولا يقوى حتى على الحركة.

تملكني شعور بالضعف، وصرت أخال نهايتي أزفت. كانت أحشائي تتمزق من كثرة تناول الثلج.، مما ضاعف آلامي. توجهت مجددا إلى العلي القدير سائلة السند والمدد. لم يكن بالي منشغلا فقط بما يعتمل في دواخلي من آلام، ولكن كان منشغلا أساسا بالتفكير في ذلك البركان الصاعق الذي سأخضع له، إنه الشيميو، لكن شيميو من نوع آخر، شيميو أكثر بطشا وجبروتا.

يتبع...