adsense

2023/02/27 - 2:58 م

عبدالإله الوزاني التهامي

                   رحلة على الأقدام لاقتناء كتاب ..الولادة الجديدة لسعيد أعراب

لما بلغ  سعيد أعراب من عمره ثمان سنوات أبعد عن محيطه الذي احتضنه منذ الولادة، ليكون ذلك إيذانا ببدء حياته التعليمية وولادته ولادة جديدة.

ففي هذا العمر المبكر  أخذه الفقيه عبدالرحمن أعراب شقيق والده إلى كتاب بمسجد "تاركا" آنفة الذكر القريب من مدشر "إعرابن"، ثم انتقل بعد ذلك إلى زاوية سيدي إبراهيم بن صالح بقبيلة امتيوة بربوع إقليم شفشاون، وبعدما قضى سبعة أعوام كلها في الحفظ والدراسة والتعلم، قبض الله روح عمه الذي احتضنه بمسجد نفس الزاوية، ثم شد الرحال إلى مدشر " أزغار" عند الشيخ محمد المدني، فلبث لديه نحو ثلاث سنوات، ثم عند الفقيه العياشي بن العياشي أعراب. 

ثم دخل مرحلة {التخنيش} أي الطواف على شيوخ القرآن وعلومه- يضع الطالب الغطاء والألبسة الضرورية وبعض الزاد في "الخنشة" ثم يرحل- فبدأ بقبيلة بني رزين، ثم بني سميح، إلى أن انتهى به المطاف إلى قبيلة بني جرير وبالضبط بمدشر  "أركل"، وهناك حط "اللوح" على يد الفقيه عبد السلام بن يحيى الملم باللغة العربية والعارف بأسرارها، فحفظ لديه المتون كالأجرومية والألفية والمرشد المعين.

وكما هو معلوم فإن منطقة غمارة كانت من المراكز العلمية المهمة التي تشد إليها الرحال، وعرفت بعلم القراءات وبعلوم دينية وكونية مختلفة، الشيء الذي جعل منها قبلة القصاد من طلاب العلم والشغوفين بالمعرفة، سواءا القادمين من فاس أو تطوان أو غيرهما، وقد قصدها مشاهير العلماء والفقهاء، منهم المقرىء الكبير عبدالسلام الفاسي صاحب كتاب "المحاذي في القراءات".

ومن الأمثال المعروفة الدالة على شهرة هذه المنطقة قول العامة والخاصة: "سبعة د غمارة ماردوش الميل على الحمارة"، ومعناه كما حدثني كثير من كبار السن في المنطقة، أنه بحكم اشتغال وانشغال أهالي غمارة المفرط بالقراءة والتعلم، لا يبقى لهم وقت للاعتناء والاهتمام بالدواب إلى حد أن سبعة منهم يعجزون عن "رد الميل على الحمارة". ولأنهم أيضا  متحلون  بأحسن ثياب وأجمله على هيئة الطلاب والعلماء.

ومن الأمثال الأخرى قول القائل في مجلس المحادثة والمجادلة في مسألة فقهية أو علمية وخاصة بفاس: "هذه المسألة صحيحة وخا تمشي عليها لغمارة"، على اعتبار أن غمارة مرجع للعلم  والفتوى، وقبلة للعلماء،  يستند إليها عند كل طارىء أو مستحدث لا حكم فيه، والتماسا لترجيح وتوضيع في قضايا مستشكلة  وعالقة.

ومن المؤسف أن نرى منطقة كانت لقرون قمة في العلوم المختلفة، إلى درجة أن آفة الأمية كادت أن تنعدم في ربوعها، (لولا إصرار أجندات على فرض الأمية والجهل في المنطقة لأهداف خاصة)، كما عم أثر تعميم  ثقافة العلم والتعلم كل الشرائح الاجتماعية، ذكورا  وإناثا، من المؤسف  أن نرى  انقلاب  الآية من قمة في الإشعاع العلمي والتنموي إلى قمة في إفراز ظواهر الانتحار والفقر المادي والمعنوي.

ومن رحلات سعيد بحثا عن مطلوبه، هجرته نحو جامع "أناراي" الواقع بقبيلة بني بوزرة، تتلمذ فيه على يد الشيخ العياشي بن علي أعراب، فدرس على يديه الأجرومية بشرح الأزهري، والربع الأخير من الألفية، كما حضر عليه دروسا في ابن عاشر بشرح ميارة.

وبعد ذلك انتقل سعيد أعراب إلى جامع "أماغوس" بقبيلة بني زجل، حيث وجد العالم الصوفي الفقيه الحسن بن ثابت الزجلي، وأخذ عنه وتأثر بما كان يتميز به هذا الشيخ من إلقاء مقتطفات من الحكم العطائية الدالة على طريق الإحسان بالمعنى القرآني -طريق القوم- التصوف، بلسان كثير من خبراء هذا العلم، والتي بفضلها -الحكم العطائية- كان الشيخ يشبع نهم الطلبة الروحي والأخلاقي.

وفي هذه المرحلة بالذات كانت لا تزال الحرب الأهلية الإسبانية مشتعلة، حيث كانت السبب في معاناة الطلبة، فكانوا يطهون بعض النباتات ويقطعون الأميال بحثا عن لقمة  الخبز والقوت.

هكذا قضى سعيد أعراب ما يقرب عامين رفقة هذا الشيخ بالجامع المذكور، انتقل بعدها نحو مدرسة الجامع الكبير بتاسيفت، القرية القريبة من قبيلة بني زجل، وكان الجالس على كرسيها المتصدر لمجالسها، فقيه شاب  قدم من العاصمة العلمية فاس يسمى الفقيه السيد الغزواني، وهو لا يزال آنذاك حديث العهد بالتدريس والتعليم، فدرس عليه سعيد أعراب علم الفرائض، المواريث فكان ذلك فتحا جديدا عليه في فهم هذا الفن من العلوم.

بعد ذلك فكر سعيد أعراب في شراء "حاشية ابن حمدون"، فعزم على السفر إلى تطوان المدينة لكي يقتنيه، وفي يوم من الأيام شد الرحال ممتطيا قدميه، وكان هذا أول سفر في حياته نحو تطوان.

كان سفر الطالب سعيد شاقا وطويلا ، لكن عزيمته عزيمة الطالب الشغوف الراغب في العلم لم تنثني ولم يثبطها مثبط ولم يقف في وجهها عارض.

بعدما وصل أعراب إلى تطوان مارا بظروف وأجواء قاهرة، لبث في هذه المدينة عشرة أيام، عاد بعدها إلى المدرسة التي فارقها، لكنه لم يمكث بها إلا قليلا.

إذ انتقل إلى معهد آخر بنفس القبيلة المسمى بجامع تلمبوط، الذي درس فيه ثلة من العلماء أمثال أبو محمد الهبطي الصوفي المشهور، والشيخ الحسن بن عرضون وولده أبو العباس وغيرهم.

وكان قائما على هذا المعهد الفقيه بن المهدي، فأخذ عنه ما أخذ من العلم في فنون مختلفة مدة عامين.

سمع سعيد أعراب أخبارا عن الشيخ أبي البركات أحمد المدرس بجامع "أغنوري" بقبيلة بني سعيد  بوادلاو  الشاطئية، مما جعله يرحل إليه للنهل من علومه، فتوتقت علاقته به، فلازمه في الجامع والبيت، وبعد تمرنه رفقة صديقه شعيب السعيدي، على الكتابة الأدبية، كوصف الطبيعة بما فيها من بحار وأنهار وجبال وزهور..، ازدادت رغبة  سعيد أعراب شوق في متابعة الدراسة قصد التبحر في بحار العلم.