adsense

2019/05/18 - 12:39 ص


بقلم الأستاذ حميد طولست
مع حلول رمضان ازدحمت ذاكرتي بصور ما عشته منذ نعومة أطافري ، من عذوبة طقوسه أيام زمان والتي كانت في عمومها توجهات ربانية  فكرية واخلاقية ووجدانية وروحية ، تحرّر  نفوس المؤمنين من هموم المعتاد وقضايا اليومي ، وتفتح أمامهم فرص الفرح العارم ، الذي يشي به بريق عيونهم ، وتكشفه قسمات وجوههم ، وتفضحه نبرات أصواتهم المتخنة بالابتِهالات الشجهية والأدعية الروحية والمجاملات المنمقة ، التي يشعرون معها ، وكأنهم مدعوون لعرس بهيج ، وهم مجتمعون -على غير عوائدهم اليومية -حول موائد الإفطار الزاخرة بألوان المأكولات والحلويات التي كانت النساء تتفنن في إعدادها خصيصا لإفطارات هذا الشهر الفضيل ، الذي إعتدن الإنصراف الى زيارة الأقارب والجيران ، بعد الإنتهاء منه ، وخروج الرجال إلى الجوامع لأداء صلوات التراويح ، وإلتحاق بعضهم  بمقاهي الحي الشعبية للعب الورق أو الضامة ، التي لا تنتهي في الغالب إلا قبيل صلاة الفجر، الأمر الذي كان يشكل لي ولجيوش أقراني من اولاد الدرب الفرصة المناسبة للانخراط في العابنا الرمضانية الصاخبة الممتعة - التي تظهر مع حلول رمضان ، وتغيب برحيله –والتي على ما يبدو ، كان ضجيجها المزعج ، وصخبها المقلق ، مصدر سعادة الكثير من الآباء من أهالي الحي -أو هكذا كان يخيل إلي حينما كنت صغيرا –  لأنها ربما كانت تذكرهم بما مارسوه منها أيام زمان ، قبل أن تتغير جل ، إن لم أقل كل طقوس رمضانات اليوم ، عما كانت عليه أحوال رمضانات زمان ، حيث كان الناس يستمتعون بفرحة قدومه بقلوب منشرحة ، وباتوا يستقبلونها ومظاهر الحزن والهموم وغياب الخير والجمال ، تسد عليهم كل منافذ الفرح والمتعة، بما فيها احتفالاتهم بصيام أطفالهم الأول ، والذي كان يعتبر حدثا عائليا مميزا لدى جل الأسر المغربية ، لقيمته الرمزية ذات المعاني الروحية السامية المرتبطة بفيض من الطقوس الروحية المتنوعة التي تختلف حسب المناطق المغربية عاداتها وتقاليدها الخصبة المتوارثة ، والتي كان يعيش الأطفال خلالها أجمل وأكبر لحظات الفرحة التي تغمر قلوبهم الصغيرة ، وهم يتلقون التشجيع والتنوي  وهدايا الأهل والجيران -التي عادة ما كانت لباسا مغربيا: جلباب، سلهام، بلغة، جبدور، سروال فضفاض، المسمى "سروال قندريسي" والطربوش، الذي عادة ما يكون أحمرَ قانيًا - احتفاء بهم وتكريما لهم على تحملهم وصبرهم على الصوم لأول مرة في حياتهم..
لا أذكر تحديداً متى صمتُ لأول مرة، لكني لازلت أتذوق طعم ما شعرت به حينها من زهو وافتخار باستطاعتي تحمل الجوع والعطش ومنافسة الكبار ، ولازلت أحس بطعم حلاوة الانتصار والتفوق على أقراني من أطفال العائلة وأطفال الدرب وربما حتى أطفال الحي ، بصيامي لنهار باكمله للمرة الأولى بعد تجربة عادة "التخياط" المتكررة ، التي كانت منتشرة بين الأطفال والتي كانت والدتي ، رحمة الله عليها، تعودني وإخواني وإخواتي بها على الصيام والصبر والتحمل دون إجهاد أو إرهاق ، حيث كانت تجعلني ، رحمة الله عليها ، أصوم نصف يوم ثم أفطر وفي اليوم الموالي أصوم نصف يوم آخر ، وبعدها كانت توحي لي بأنها تخيط أنصاف الأيام ببعضها ليكتمل يوم الصيام ، وذاك شفقة علينا ورأفة بنا من صعوبة ومشاق الصوم علينا نحن الأطفال..
لازلت أذكر ،وكيف لي أن أنسى ،أنني في ذلك اليوم المشهود ،وبعد الانتهاء من تناول ذلك الافطار المتميز والشهي المهيء بالكامل على شرفي صومي الأول ، مشيت رفقة والدي في موكب بهيج من أفراد أسرتي والجيران نحو مسجد الحي لأداء صلاة التراويح والعشاء، مشيت وأنا مزهو بلباسي التقليدي الجميل الذي كان عبارة عن جلبابا أبيض وطربوش أحمر وبلغة صفراء.
وفي ختام هذه المقالة ، ورغم مرارة ما أصبحنا نعانيه مع تبدل طقوس رمضانات اليوم ،وتغيير عادات الناس فيه ، ادعوا الله أن يجعله بلسما لجراح الأمة العربية والاسلامية ويوفق قرائي لصيامه وقيامه وهم يتمتعون بالسلم والسلام ، وكل رمضان ونحن جميعا الى الله أقرب.