adsense

2021/01/13 - 1:08 م

بقلم عبد الحي الرايس

خاصَّة تِلْكُمُ الواقعةُ على أنْهُر: لندن(نهر التايمز)، باريس(نهرالسين)، الدار البيضاء(وادي بوسكورة)، فاس(وادي الجواهر) وغيرها، وهي مدن اقترن اسمها بذكر الأنهار التي تعْبُرُها، ساعيةً نحو مَصَبِّها في دَعَةٍ واطمئنان، وإغراءٍ بالمِلاحة والنزهة على ضفافها بمتعة وأمان، فإذا انْهمرت الأمطارُ بغزارةٍ فاقتِ المُعتاد، تحولتْ إلى سُيولٍ عاتيةٍ تجرفُ الإنسانَ والْبُنيان.

تحَسَّبتْ لذلك بعضُ المدن، فآثرتْ ـ عاجلاً غيرَ آجل ـ تقويةَ مَناعتها، وسارعتْ إلى بناء مَجَارٍ عملاقة تستقبلُ مياهَ الصرفِ، وتستوعبُ فائضَ الأمطار، فَوَقَتْ بُنيانَها وسُكانها شرَّ الكوارث، ولم تُفاجَأ على مرِّ السنين بِهَدْرٍ للمعمار ولا للأرواح.

ولعل قُرَّاءَ الأمْس، مُلْتَهِمِي الرواياتِ العالمية ـ بلغتها أومُعَرَّبَة ـ والمُولَعين بالسينما يَذكُرُون ولا ينسَوْن ما خطَّه فيكتور هيجو في روايته البؤساء ـ وهي تحكي عن حال باريس أيَّامَ الثورة الفرنسية في أواخر القرن الثامن عشر، سنة 1789 ـ من وصفٍ دقيقٍ  لمُطارَدةِ جافير لجان فالجان في مجاري باريس بعرْضِ عدَّة أمتار، وارتفاعٍ يزيدُ عن ضِعْف قامة الإنسان، ويتسع لمرور العربات واستيعابِ الطوفان، مما يقومُ شاهداً على أن بُنَاةَ المُدن كانوا يفكرون أول ما يفكرون في تمنيعها من الأخطار.

قديماً كانوا يحيطونها بالأسوارِ والقلاع لحمايتها من الغزوِ وصَدِّ العُدْوَان، وحديثاً يَعْمِدُون إلى إقامة السدود التلية، وبناء المجاري العريضة قبل تهيئة الطرق الفسيحة وإحداثِ المنشآتِ العملاقةِ وناطحاتِ السحاب، مع استحضار متطلباتِ التوازن البيئي وشروطِ العزل الحراري والصوتي ومقاومة الزلازل.

فإذا حادُوا عن ذلك، وحدث أن احتفظت المدينة بما لديْها من قنواتٍ قديمةٍ للتطهير، أو اكتفَتْ بتوسيع نِسْبِي تحسُّباً للمتطلبات الآنية، وسمحَتْ بالبناء في المناطق الفيضية وبقايا الضايات، أوعلى شط البحار وضفاف الأنهار، أو تغاضتْ عن ذلك، جَنَتْ من ذلك شرَّ المخاطر والكوارث، ووجبتْ مؤاخذةُ المُخططينَ والمُسيِّرين الذين يُدَبِّرُون اللحظة، أو يستفيدون منها، ولا ينظرون إلى أبْعَدَ من الأنوف.

وصفوةُ القول أن مناعةَ المدينة تقتضي فيما تقتضيه أوَّلاً رفعَ درجة الاهتمام ببنياتها التحتية، استحضاراً لهاجس الاستدامةِ على مدى قرونٍ لا عقود، وإخضاع كل منشآتها للمعايير التقنية الضامنة للاستمرار والصمود.

ولا مجال للترقيع والحلول الوُسْطى، فعَـنْها تترتب الكوارثُ الكُبْرَى، والمخاطرُ العُظْمَى.