adsense

2019/05/09 - 10:33 م

بقلم الأستاذ حميد طولست

ليس منا من لم يحفظ عن ظهر قلب، ومنذ نعومة أظافره، الآية الكريمة "كلوا واشربوا ولا تسرفوا"، وتعلم من آبائه وفقهاء "المسيد" ومعلمي المدارس الابتدائية وأساتذة الإعدادي والثانوي وحتى الجامعي: أنّ "الإسراف" صفة سلوكية مقيتة مذمومة دينياً واجتماعياً وأخلاقياً، لما فيها من مجاوزة في الأفعال والأقوال، والزيادة فيما لا داعي له ولا ضرورة حتى لو كان في الأمور المباحة ، فبالأحرى ما تعلق بالخبز والمال والطعام وغيرها من الموارد الطبيعية والطاقية الأساسية التي تنادي الحكومات والجمعيات المدنية والاقتصادية والبيئية بعدم الإسراف فيها لما يترتب عن تبديدها من المفاسد الدينية والدنيوية التي تُدّمر المجتمعات، وتقضي على مقدراتها، وتعبث باقتصاداتها، وتؤدي بالكثير منها إلى الخراب و المضار بسبب  التصرف غير السوي والسلوك الخاطئ، الذي قال سبحانه وتعالى في مرتكبيه: "إنّ المبذّرين كانوا إخوان الشياطين"؛
غير أن ما هو مشاهد اليومَ، في مجتمعاتنا، خاصة في شهر رمضان،لا يعكس حقيقة ما تعلمناه ويناقض كل معاني الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة التي تحذر من عواقبه، حيث تعم سلوكيات الإسراف وصوره كل جوانب الحياة المادية والمعنوية، على مستوى الفرد و الجماعة ، رغم استياء عامة الناس منها ، وانتقاد الكتاب والمفكرين والمثقّفين والصحافيين والاقتصاديين لها ،  لكن المفارقة الغريبة أنها ظاهرة تتجدد مع حلول كل رمضان ،إذ أنه بمجرد ما ينوي المرء الصيام حتى يستسلم للشهوات ويضعف أمام الرغبة في اقتنائها ،التي يتحوّل معها ، بوعي أو بغير إرادة، إلى آلة استهلاكية مسرفة، تفسد قدسية وروحانية هذا الشهر، الذي يحوله هوس الإسراف والبذخ إلى شهر للأكل ، ليفرض دراسة مجتمعية ملحة، بغرض تشخيص الدّوافع والأسباب الكامنة وراء حالات الإسراف الفريدة التي لا تقتصر على الإنفاق على الطعام، وإنما تناوله أيضا، والذي ما أن يضرب مدفع الإفطار حتى يبدأ مرطون التهام كل أنواع الأطعمة والمشروبات، والانتقال بين أصناف الشهيوات الرمضانية حتى مطلع الفجر، دون مراعاة لما ينتج عن ذلك من مخالفة لتعاليم الدين وتوجيهاته التي قال فيها عز وجل: "وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ" سورة الأعراف الآية 31. لما في ذلك من إضرارٍ بالصحة إضاعةٍ للمال.
ولا يقتصر الإسراف في هذا الشهر في تزايد نهم وشراهة الصّائمين للطّعام، الذي يفضح هوسه وجنونه ، لجوء الكثير من العائلات إلى الاستدانة للتغلب على مصاريفه ، بل يسرف الصائمون في النوم نهارا، والسهر الطويل الليل، مُتغافلين مضار ذلك التصرف الذي يوهن الجسم، ويُرهق التفكير، ويُربك وظائف الجسم، ويؤثر في الحالة النفسية للإنسان، كما يسرف الكثيرون في القيل والقال، ونقل الكلام ،وإطلاق الألسن بسيئه وإشاعته بين الناس، الذي قال نهى عنه صلى الله عليه وسلم بقوله : "وهل يكُبُّ الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلاَّ حصائدُ ألسنتهم" رواه الترمذي.
وإلى جانب كل ذلك أصبحنا نلاحظ نوعا جديدا من الإسراف في العادات والطقوس الفلكلورية الفارغة الجوهر، المعطلة الوظيفة، الفاقدة المضمون، المتلاشية الآثار، المتمثلة في المبادرات الظرفيّة والحملات الاستعراضيّة الزائفة،المتمثلة في التّكافل الاجتماعي والاهتمام بالفقراء، وكأنّ هؤلاء لا يوجدون أو لا يحتاجون للطعام إلاّ خلال هذا الشّهر،  فنحن إذا في حاجة إلى تخليص مفاهيمنا الدينية من سلبية العادات والتقاليد الموروثة، وتحريرها من أسر البرمجة المجتمعية التي لا يمكن فكّ شفرتها إلا بتفكير واعي شجاع بعيد عن التقليد والمحاكاة، عملاً بقول الله تعالى "عليكم أنفسكم، لا يضرّكم من ضلّ إذا اهتديتم"، وقوله تعالى "لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" صدق الله العظيم..