adsense

2022/11/30 - 12:55 م

بقلم عبد الحي الرايس

فاس الحاضرةُ العامرة الضَّاربَة في عُمق التاريخ المزهوة بأعلامها ومعالمها، وبديع صنائعها، وشهي أطباقها، وبهاء مسالكها، وأريج الزهر يتضوع من رياضها وبين دروبها، وبواكر الغلال تُجْنَى من عرصاتها والحقول المحيطة بها، ونقاوة مياه أوديتها، ولباس أهاليها، وتكافل سكانها، واحتضان طلاب العلم في جامعتها ومدارسها، وصَهْر أطياف الوافدين عليها في بَوْتقة حضارتها.

فاس الأبية الشامخة الْمُعتدَّةُ برصيدها وتراثها تُطلُّ من عليائها مُشفقة مما آلت إليه صورة باهتة لها يطغى عليها الترييفُ ومظاهرُ البداوة، تتوارى خجلا مما صار عليه حالها من وديان مُلوَّثة، ونظافةٍ مُنْتفية، وحدائقَ مُهملة، ودَوْحاتٍ مُستهدَفة، وأرْصِفةٍ مُكْتسَحَة، وأسواقٍ عشوائية، ووسائلِ نقلٍ مُتلاشية.

ويتساءلُ المُشفقُ الغيور: مَنْ صَنع بكِ هذا يا فاس؟

ويأتي الجوابُ مِمَّنْ عايشوا الحِقبتيْن، وعاينُوا التحوُّلَ الزاحف، والتراجعَ المُتواصل، ولا يتردَّدون في الفضْفضةِ بالأسباب:

مَوْجَاتُ هجرة مُتتالية كانت فيما مضى تَعْرفُ الاحتضانَ والتَّمْدِين، الذي اصْطُلِحَ عليه بالتَّفْويس، ثم صار يُقابَلُ باللامبالاةِ والتغاضي عن كل مظاهر الترْييف، وانقلبَ السِّحْر على الساحر، فالحاضرة التي كانت نموذجاً للريادة، ومَصْدَراً للحضارة، صارتْ موئلاً ومَعرضاً لمُختلِفِ مظاهر البداوة.

ومُدَبِّرُو المدينة الذين كانوا يَأْرَقون لكل اختلالٍ يطرأ عليها، ولا يهدأ لهم بالٌ إلا بالتداوُل في الموضوع التماساً وتفعيلا للحلول، صاروا يُهادنون ويُسالمون، ويَنظُّرُون وكأنهم لا يُبْصِرُون، فاتسع الخرقُ على الراقع، وأفضى التغاضي إلى مزيدٍ من التطاوُل والتمادي.

وصرتَ تَرى طبخ الطعام في العراء بالشارع العام في واضحة النهار، والأرصفةَ محجوزةً للباعة وأصحاب المحلات، والمحطاتِ العشوائية بملتقيات الأزقة، والباسطي نفوذهم على حدائقَ وفضاءاتٍ عمومية، وغير ذلك كثير....

ولن يَنْصلحَ الحالُ إلا بمبادراتٍ حازمةٍ حاسمة لإيقافِ النزيف، ومُخططاتٍ لإعادةِ التهيئة وتدارك ِالعثرات وَالإغْفالات السابقة.

وصحوةٍ من الأهالي يرفعون وتيرة التدارك دون إبطاء ولا تواكُل.

ومهما غُمِسَ الماسُ في الطين، لن يلبث بعد جلائه أن يُومِضَ من بعيد

وتلكم هي فاس، يعتريها ما يعتريها، ولكنها كالفينيق تنْضُو عنها الرداءَ العارض، وتستأنفُ مسيرة الْمَجْدِ الخَالِد.