adsense

2020/04/14 - 2:56 م

بقلم الأستاذة غزلان الرحموني محامية وباحثة في قانون العقار والتعمير.
بمجرد انتشار وباء كورونا بمختلف ارجاء العالم اختلفت الآراء والاتجاهات حول مصدر هذا الفيروس ما بين فئتين: الأولى  اعتبرته مرحلة وبائية عادية  كسائر الأوبئة والطواعين التي مرت بها البشرية على مر العصور وبالتالي فالأمر طبيعي، في حين ذهبت الفئة الثانية الي اعتبار هذا الفيروس داء مركب ومصطنع الهدف منه تحطيم اقتصاديات بعض الدول عن طريق حرب بيولوجية مدبرة بين القوى الاقتصادية العالمية الكبرى.                                  
ومهما كان مصدر هذا الوباء فقد ترتبت عنه  أضرار كبيرة على مستويات عدة:  اقتصادية تجارية صناعية سياسية اجتماعية... ، الأمر الذي حتم على العديد من الدول التفكير في إعادة استراتيجياتها وعلاقاتها الدولية سواء فيما يتعلق بالاتحاد الأوروبي الذي كشف هذا الوباء عن محدوديته وعجزه وعدم  قدرته على احتواء الازمة بالنسبة لمجموعة من اعضائه خاصة دولة إيطاليا وإسبانيا، زد على ذلك فشل اكبر قوة اقتصادية في العالم في السيطرة والتحكم في الوضع ويتعلق الامر بالولايات المتحدة الأمريكية التي اتضح فشلها وعجزها  للعيان سواء فيما يتعلق بعلاقاتها الدولية أو حتى في علاقتها مع مواطنيها حيث رفضت حمايتهم باتخاذ اجراءات احترازية استباقية للحد من انتشار الفيروس مرجحة كفة المعاملات التجارية والاقتصادية على حساب كفة الكائن البشري ضاربة بعرض الحائط مبادئ حقوق الإنسان والحق في الحياة الذي يعتبر من أسمى الحقوق، كذلك الدور التقصيري  لمنظمة الصحة العالمية التي عجزت هي الأخرى عن احتواء الوضع والقيام بأدوارها الحمائية تجاه دول العالم وذلك عبر إنذارهم وتحذيرهم بخطورة الوباء بمجرد ظهوره بدولة الصين، وذلك حتى تتمكن الدول من اتخاذ الحيطة والحذر بإغلاق الحدود وسلوك التدابير الوقائية اللازمة قبل انتشار الفيروس، هذا الأخيرة تتحمل جانب كبير من المسؤولية في  انتشار الفيروس عبر العالم ،الأمر الذي يستدعي إعادة النظر في هيكلتها وفي الأدوار والمهام المنوطة بها.                                               
هذه المتغيرات التي عرفها العالم ستساهم بالفعل  في إعادة تركيبة مجموعة من الاتحادات والمنظمات والعلاقات مابين الدول بعد جائحة كورونا.           
المغرب من بين  الدول التي أبانت عن روح عالية وأعطت دروسا في قيم الانسانية وسيادة التضامن رغم إمكانياتها البسيطة ورغم اقتصادها الضعيف باعتبارها من دول الجنوب، إلا أن قوة البلدان اليوم أمام انتشار هذا الفيروس "كوفيد 19"  لم تعد تقاس بالأرقام التي يحتلها الاقتصاد وإنما تقاس بمعايير انسانية تضامنية بالدرجة الأولى والدليل على ذلك عجز العلماء والدول المتقدمة لحد الساعة عن إيجاد أي تلقيح او علاج فعال، الأمر الذي تبقى معه عظمة الخالق وقدرته فوق كل إمكانيات خلقه.                           
سنحاول الإشارة في هذا الموضوع الي أهم المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية التي ساهم وباء كورونا بشكل كبير في إحداثها بالمغرب وذلك على الشكل التالي:
أولا : المتغيرات الاقتصادية على إثر جائحة كورونا اتخذ المغرب تدابير اقتصادية جد مهمة بدءا بإحداث صندوق مالي مهمته تدبير الجائحة ساهمت فيه مجموعة من الهيئات الوطنية والشركات العمومية والخاصة والمؤسسات العمومية وغيرها من الفاعلين بل حتى المواطن البسيط بأموال من شأنها تغطية احتياجات وتبعات الجائحة، كما تم إحداث لجنة اليقظة لتتبع الوضعية الاقتصادية والمالية والصحية المترتبة عن انتشار الوباء من أجل تغطية كل المتطلبات المالية، ومن بين المتغيرات الاقتصادية الاخرى التي من شأنها التخفيف من حدة الأضرار الناتجة عن هذا الوباء نجد مساهمة البنك المركزي في التخفيض من سعر الفائدة، إضافة إلى التدابير الضريبية التي قامت بها وزارة المالية المتمثلة في استفادة الشركات التي يقل رقم معاملتها عن 20 مليون الدرهم من تأجيل التصريح الضريبي إلى غاية 30 يونيو، كذلك تم تعليق التصريح الضريبي لباقي المقاولات والشركات الصغرى، وتعليق المساهمات الاجتماعية بالنسبة لأرباب المقاولات لدى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، ولقد أدت هذه الجائحة الي ظهور صناعات محلية من طرف مصانع ومقاولات مغربية  مهمتها تصنيع المعدات والأدوات الطبية وأجهزة التنفس والتعقيم، اقتصرت في هذه الظرفية على الإنتاج الداخلي لتزويد السوق الوطنية ولتحقيق الاكتفاء الذاتي، دون تصدير للخارج ودون اعتماد سعر السوق في توزيعها على الموردين، كل هذه التدابير والتغييرات الاقتصادية أوضحت جانب تحمل المسؤولية ورح التكافل لدى كل الفاعلين الاقتصاديين، كما أعادت الثقة في مؤسسات ومرافق الدولة العمومية والشبه العمومية من طرف المواطنين.                              
ثانيا: المتغيرات الاجتماعية.                    
قد يتبادر إلى الأذهان ان الازمة صحية وبالتالي وزارة الصحة هي من ستقوم بتدبيرها، إلا أن الواقع أوحى عكس ذلك، حيث كل القطاعات الوزارية وهيئات المجتمع المدني تجندت لمحاربة هذا الوباء الخطير الذي لا يرى بالعين المجردة، نلاحظ التدخل الكبير لوزارة الداخلية بمختلف شرائحها من قواد واعوان السلطة الذين يقومون بأدوار تحسيسية طيلة أيام الأزمة بهذف الحد من انتشار فيروس كورونا، كذاك يقومون بمهام رقابية على مستوى الأسعار والاحتكار الذي يقوم به بعض التجار، إضافة إلى رجال الأمن والقوات المساعدة ودورهم في استتباب الأمن ومواجهة كل من اخترق حالة الطوارئ بالوسائل القانونية اللازمة لذلك، وتتجلى أبرز المتغيرات الاجتماعية كذلك في المجهودات الجبارة التي يقوم بها رجال التعليم عن بعد مستغلين وسائل الإعلام والتواصل والتكنولوجيا الحديثة في القيام برسائلهم النبيلة، وطبعا الدور الكبير للجيش الأبيض من أطباء وممرضين ومساعدين ورجال نظافة بالمستشفيات الساهرين على صحة المصابين، الدولة ساهمت في التخفيف من حدة الأضرار الاجتماعية الناتجة عن الوباء عن طريق دعمها لكل القطاعات الغير المهيكلة بمساهمات مالية شهرية يتم استخلاصها من الصندوق المرصود لتدبير جائحة كورونا، ومن هنا يتضح  الخطر الكبير الذي يشكله  القطاع الغير المهيكل على الاقتصاد الوطني، وربما ستكون  أزمة  كورونا بداية للتفكير في تقنين هذا القطاع حتى لا يصبح اعضاؤه اللذين يشكلون شريحة كبيرة من المجتمع عالة على الدولة، وحتى يساهم هذا القطاع في الرفع من موارد الدولة والنهوض باقتصادها بدل الاعتماد على مواردها المالية المحدودة، هيئات المجتمع المدني هي الأخرى قامت بأدوار جد مهمة في التوعية والتحسيس وفي مساعدة الأسر المحتاجة، الكل مجند من أجل إنجاح سياسة الدولة في مواجهة وباء كورونا، ليتضح كذلك ان المسؤولية اليوم هي ملقاة على  المواطن من أجل  احترام اجراءات الحجر الصحي حفاظا على صحته وعلى صحة باقي أفراد المجتمع ومن أجل الاحتكام كذلك للمقتضيات القانونية المنظمة لحالة الطوارئ.        
 كل هذه المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية الناتجة عن جائحة كورونا لعبت دورا كبيرا في إعادة التوازن بين علاقة المواطن وكافة الفاعلين بمختلف ادوارهم وتخصصاتهم، كما أبان كل المسؤولين  بمختلف القطاعات عن حس المواطنة في قيامهم بأدوارهم بعيدا عن كل الحسابات السياسية والمالية، الكل يشتغل اليوم  في سبيل الوطن ومن أجل محاربة عدو خطير "فيروس كورونا المستجد" دون الأخذ بعين الاعتبار المعايير الاقتصادية التي يقوم عليها السوق من مضاربة وسعر متغير، ودون الرغبة في  تحقيق رقم معاملات معين او ربح مادي، هذه المتغيرات الناتجة عن وباء كورونا ستساهم في إنجاح النموذج التنموي الجديد الذي من بين مرتكزاته الأساسية سيادة قيم التضامن وروح المواطنة، والعمل التشاركي بين كل القطاعات بعيدا عن الفردانية والذاتية والتفكير في الربح المالي، وبعيدا عن مبادئ الرأسمالية التي تحتكم للسوق والتي عجزت اليوم اغلب دولها(الدول الرأسمالية ) عن التحكم والسيطرة على  الوباء في ظل  غياب القيم الانسانية والتضامن لديهم، فالرهان اذن من أجل مغرب جديد ونموذج تنموي جديد يقتضي تفعيل كل هذه المتغيرات الحديثة والنهوض  بأهم القطاعات الحيوية من تعليم وصحة: قطاع التعليم الذي اتضح اليوم انه ركيزة الشعوب وأن الأمر أصبح يستدعي التفكير في إعادة تنظيمه والاهتمام به ورقمنته بأحدث الوسائل التكنولوجيا وإعادة النظر في المدرسة العمومية وفي التعليم عن بعد الذي تبينت اليوم اهميته، كذلك قطاع الصحة الذي اتضحت أهميته وذاك عن طريق التكوين الجيد وتجهيز المستشفيات والاعتناء بصحة المواطن، هذه القطاعات الحيوية أصبحت تفرض على الدولة الاهتمام بها ورصد موارد مالية  كافية للنهوض بها بدل تركها محتكرة من طرف القطاع الخاص الذي يستنزف جيوب المواطنين من آباء التلاميذ الذين فقدوا الثقة في المدارس العمومية وفي مردوديتها، كذلك مصحات القطاع الخاص التي غايتها بالدرجة الأولى هي الاغتناء والربح وليس صحة المواطن، حان الوقت لإعادة التفكير في هذه القطاعات الحيوية حتى تستطيع القيام بأدوارها التربوية والإنسانية على أحسن وجه خدمة للمصلحة العامة، فالدولة اليوم مطالبة باحتضان هذا القطاعين ورصد الموارد المالية الكافية لهما حتى يحققان المراد وحتى يقومان بأدوارهم على أحسن وجه.                               
إنجاح مشروع النموذج التنموي رهين بتكاثف جهود كل القطاعات وتجندها من أجل تحقيق رفاهية المجتمع والعيش الكريم بعيدا عن كل الحسابات الضيقة وبعيدا عن النزعة الفردانية ، وفق حكامة تشاركية يشتغل فيها الجميع ويتم فيها استثمار الرأسمال المادي واللامادي بشكل معقلن.