adsense

2019/07/11 - 2:38 م

بقلم عبداالغني فرحتي
اليوم، قررت أن أبوح، قررت أن أزيل الستار عن جوانب خفية من حياتي. حقيقة المرء، ليست هي كما يظهر للناس. قد تكون الحقيقة في الواقع، مخالفة لذلك تماما. فأنا مثلا، كل من يعرفني، يخالني شخصية قوية، يزيد من قوتها، قربها من محيط صناع القرار بالبلاد. وضع مادي مريح: سكن فسيح بفيلا تقع بالحي الراقي المعروف "لخدام الدولة" ، موارد مالية متعددة، من أهمها مداخيل أذونات سيارة الأجرة التي استفدت منها، إضافة إلى تعويض التقاعد المريح.
غير أن ذلك كله، لم يمنحني فرصة الحياة السعيدة. أنا، حاليا أعيش وحيدا في هذا المكان. استفقت من غفوتي، على حين غرة، فأدركت أن حياتي سرقت مني، ضاعت بفعل انغماسي الكامل في "وظيفتي" وبفعل الإيقاع المتسارع للحياة من حولي.
   وأنا أركب سفينة البوح والاعتراف، بإصرار وسبق الترصد، أحتار "ملين نبتدي الحكاية؟" كما غرد العندليب الأسمر الذي كان من مؤنسينا خلال مرحلة مراهقتنا البريئة والسعيدة، أيام الزمن الجميل.
  خلال فجر الخامس من شهر ماي من سنة 1959، رأت عيناي النور. والدي، بل أفراد أسرتي القريبين، كلهم استبشروا خيرا بمولدي واطمأنوا على حياتي ومستقبلي. فأن يكون ازديادي في اليوم 5 من شهر 5، إضافة إلى ألف وتسعمائة و"خمسين"، كل ذلك، وانطلاقا من ثقافتهم الشعبية البسيطة، اعتبروه سيكون بمثابة حصن حصين، سيحميني من عيون الحسد عبر مسار حياتي. أما مكان الازدياد، فكان بأحد دروب "فاس الجديد"، المعلمة التاريخية التي تعود إلى العصر المريني. كان منزلنا يجاور مسجدا صغيرا دأبنا منذ طفولتنا المبكرة المواظبة على الصلاة فيه.
 لم أشر إلى اسم الدرب ولا المسجد. فرغم قراري البوح بكل ما عندي، أصطدم بموانع تفرض علي نوعا من التحفظ الذي ورثته من الوظيفة التي انغمست فيها، منذما يزيد عن ثلاثة عقود من الزمن. بمدرسة درب الزاوية قضيت سنوات الابتدائي.
 بعد سنوات الدراسة بالثانوي بثانوية الشراردة الجديدة (إبن خلدون حاليا)، سألتحق بجامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس كطالب بشعبة التاريخ والجغرافية. كان ذلك بالضبط مع بداية الموسم الدراسي 1978/1979. كانت الأجواء تغلي واحتجاجات الطلبة تكاد تكون يومية للمطالبة برفع الحظر عن المنظمة الطلابية، الاتحاد الوطني لطلبة المغرب. وقد شكل ذلك مناسبة لتعميق ميولاتي اليسارية التي بدأت إرهاصاتها الأولى بثانوية الشراردة، والتي كانت تعرف هي الأخرى نضالات تلاميذية، خصوصا سنوات 1971/1972/1973. الأمر الذي جعلني أعيش تمزقا وتذبذبا في قناعتي الدينية: لقد عشت ما يقارب العقدين بجوار مسجد صغير بفاس الجديد، واعتاد كل أقراني، منذ الصغر الالتحاق به عند المناداة لكل صلاة. والآن، وتحت ضغط قناعات اليسار الجذري الذي كان موقفه  سلبي من الظاهرة الدينية، أجد نفسي مدفوعا إلى وضع كل شيء موضع سؤال وإعادة النظر في تصوراتي وتمثلاتي السابقة. لا أخفي أن هذا التمزق ظل هاجسا يسكنني ولم أستطلع التخلص منه إلا بعد زمن طويل.
 المهم، توفقت كثيرا في التوفيق بين الحرص على الحضور الميداني في ساحة النضال الطلابي بجامعة سيدي محمد بن عبد الله، وبين تحقيق مسار دراسي ناجح. كنت اخترت التسجيل، بعد السلك الأول من الدراسات الجامعية، ضمن طلبة  شعبة الجغرافيا. ربما يكون لنشأتي بفاس الجديد، ولتلك الخرجات الني كنت أقوم بها، رفقة أولاد الحومة إلى مرتفعات جبل "ظهر المهراز"، المطل على الحي، وما كان يصاحب ذلك من شقاوة ومغامرات، دور في اختياري لهذه الشعبة. غير أن مادة من موادها كانت تستهويني أكثر من غيرها، إنها مادة الجغرافيا السكانية. كمت أحس أن المجالات التي تخوض فيها شديدة القرب من عديد القضايا التي يتطرق إليها علم الاجتماع.
   لمست ذلك بالملموس، حين كنت بصدد تهييء بحث لنيل الإجازة، بحث كان يرتكز على دراسة ميدانية للتركيبة السكانية لقاطني مدن الصفيح أو ما يصطلح عليه "بأحزمة البؤس". ونظرا لراهنية الموضوع وخاصة بعد تلك الطفرة التي عرفتها البلاد مع بداية الثمانينيات من القرن الماضي من حيث تناسل أحياء البناء العشوائي، ولما كنت أحس بأن البحث المنجز للحصول على الإجازة، لم يشف غليلي، قررت مواصلة الدراسة إلى أن حصلت على دكتورة السلك الثالث بميزة حسن جدا.
   كنت واثقا من أن بحثي في موضوع أحياء الصفيح والبناء العشوائي سيتواصل، وكنت أتمنى أن يتبنى مركز للبحث العلمي تدارس الظاهرة بالاستعانة بمتخصصين في الميدان، خاصة وأن الخطاب الرسمي صار منشغلا بالموضوع، تحديدا إثر الأحداث التي عرفتها الدار البيضاء خلال الإضراب العام الذي كانت دعت له مركزية نقابية يوم 20 يونيو 1981. لهذا ستفتح مباراة لتوظيف أطر عليا، سيشتغلون كمستشارين بما كان يسمى أم الوزارات.
 ظننتها الفرصة التي كنت أنتظر، على الرغم من الحساسية التي كانت لنا تجاه هذا الجهاز، خاصة بالنسبة لمن كان لا يزال يحتفظ بقناعات اليسار الجذري. اجتزت المباراة بنجاح. كان ارتياحي كبيرا من ذلك النقاش العميق والعلمي الذي عرفته المقابلة مع لجنة تضم خمسة أعضاء، يتميزون بتكوين متميز وبمعرفة موسوعية. لم أكن أتصور أبدا إمكانية أن يتواجد بهذا الجهاز كفاءات علمية بهذا المستوى. تداولنا حتي في مواضيع كنا نخالها من الخطوط الحمراء. في الحقيقة كنت في حاجة إلى الوظيفة بحكم الوضع الاجتماعي لأسرتي، إلا أن حماسي كان فاترا. لكن، بعد ذلك النقاش ــ الذي لم أشعر قط أنه امتحان ــ  اشتعل في كياني الحماس وتولدت لدي الرغبة الأكيدة في الظفر بهذه الوظيفة.
  دام انتظار النتائج أياما عديدة. كلنا كان يعي السبب: فانتقاء الأطر الملتحقة بهذا الجهاز يفرض القيام بأبحاث موازية دقيقة حول المترشحين للفوز بالوظيفة. بعد أيام، سيطرق باب منزلنا ساعي البريد حاملا رسالة تطلب من الالتحاق فورا بالوظيفة، مصحوبا بمجموعة من الوثائق. وهكذا أصبحت من مستشاري بالوزارة.
 لم تكن الوسائل الرقمية متوفرة آنذاك، وبالتالي، كل الأشغال كانت تتم بشكل يدوي. وجدت نفسي أمام معطيات إحصائية وديموغرافية مهمة توفرها المصالح التي أشتغل بها. الأمر الذي فتح شهيتي لمواصلة البحث والدراسة. يتبع...