بقلم الأستاذ حميد طولست
إن أهم ما ترتكز عليه عملية الدعاية لأي
منتوج أو خدمة من أي نوع كانت ، بما فيها الدعاية الانتخابية، هو الابتكار والإبداع في الإعلان نفسه وتميزة بالجدة
والتجدد الجاذب للانتباه ، المثير للدهشة والاستغراب ، المؤثرة على الأفكار بصورة ترسخ
في الأدهان الرسائل الإعلانية للمنتج أو الخدمة ، التي لا يصدر مها أي فعل أو حركة ، ولا ينشر عنها أي خبر
أو تصريح إلا لغاية محسوبة التإثير ، ولهدف محدد النتائج ووظيفة مقصود الدور..
كتلك الإبداعات والابتكارات الغريبة التي
تفتقت عنها عبقرية الحملة الانتخابية للسابع من أكتوبر ، وانخرطت بعض الأحزاب في مسلسلاتها،
ولا أقصد هنا توزيع المال والأكباش والمواد الغذائية والأدوات المدرسية ، التي تعد
من الأساليب القديمة التي لم تعد تثير إهتمام أحد ، بل أعني تلك الظواهر الجديدة والغريبة
وغير المنتظرة بالمرّة ، التي عرفتها الحملة الإنتخابية ، والتي كان من أغربها على
الإطلاق تلك الاستراتيجية الفريدة والمتفردة التي أملتها حالة تضاعف عدد المرشحين الشعوبيين
وتنافسهم المحموم على دغدغة مشاعر المواطنين بغية الاستقطاب والحشد والتجييش ، والتي
إبتكرها المسؤول الأول عن التجربة الحكومية السيد بنكيران ، معتمدا فيها الخطاب العواطفي
المثير للمشاعر والأحاسيس ، من بكاء وصراخ وعويل ونحيب ، لمفعولها القوي في التأثير
على الجموع وسهولة تأدية الغاية منها بأسرع من النصوص الشعرية والنثرية ، والتي بالغ
-كعادته - فيها ، حتى أصبح البكاء رفيقه في الجولات الدعائية لحزبه ، وغدا الدمع سلاحه
الأمثل لتحقيق طموحه في التربع على عرش ولاية ثانية ، رغم علمه بأن السياسة و العواطف
هما ثنائيتان متقابلتان تنتميان الى مجالين مختلفين، تنتمي الأولى الى المجال العقلاني
، في حين تبقى العواطف جزءا من المجال اللاعقلاني البعيدة كل البعد عن العمل السياسي
الجاد المنبني على الموضوعية ولغة المعطيات والأرقام التي تعطي معنى عقلاني و مقنع
للخطاب السياسي.
و هذا لا يعني أبدا أن السياسي عليه أن
يكون باردا خاليا من العواطف والأحاسيس والمشاعر الإنسانية ، بل على العكس ، فالبكاء
هو نوع من التنفيس والتفريج عن النفس المثقلة بالهموم، والقلب المكلوم المفعم بالأسى،
وما كان يوما عيبا ولا عاراً على صاحبه ، لأنه آية من الآيات التي من بها عز وجل على
عباده للترويح، مصداقا لقوله سبحانه: "وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى 43 وَأَنَّهُ
هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا44" النجم ، لكن يبقى العيب كل العار الذي يجب أن يُخجل
منه ، هو استخدام البكاء غير الصادر عن العاطفة الحقيقية، وتوظيفه في الكذب على التاس وإيهامهم بما يخالف
الحقيقة ، وذلك لأن البكاء ليس دائماً صادقاً، أو نابعاً من عاطفة نبيلة، كالذي تصنعه
أخوة سيدنا يوسف عليه السلام، ليوهموا أباهم بما يريدون ، والذي صوره القرآن الكريم
تصويرا بليغا في قوله عز وجل : (وَجَاؤُواْ أَبَاهُمْ عِشَاء يَبْكُونَ 16 قَالُواْ
يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ
الذِّئْبُ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِين 16/17يوسف.
ومنه يتضح لنا أنه مهما كان تأثير البكاء
المخادع بكل صوره العديدة و بدموعه الزائفة ، كبيرا في الإنطلاء على بسطاء الناس تصديقهم
له وتعاطفهم مع أصاحبه ويلهب التجمعات الخطابية
، فإنه لاشك أنه يجلب عليهم الكثير
من الانتقادات ، لأنه بكاء متصنع مخداع ومضلل ، يفطن إليه المؤمنون الصادقون، وهذا
لا يعني أننا تشكك في بكاء ودموع السي بنكيران الأمين العام لحزب العدالة والتنمية
، وأنها غير صادقة وغير صادر عن عاطفة غير حقيقية ، رغم تفاعلت شريحة عريضة وواسعة
من المجتمع بشكل غير ايجابي معها ، لأن البكاء رقة تعتري القلب نتيجة خشية أو خوف أو
رحمة أوشوق أو حون وتفتعل على إثره النفس ، فيحدث البكاء وتنهمر الدموع
.
ونحن نحكم على الظواهر والله وحده يحكم
على السرائر ، لأنه أعلم بها حتى من أصحابها ، ولا يسعنا في الختام إلا أن ننشد مع
الشاعر الفيلسوف المعري:
غيرُ
مجدٍ في ملّتي واعتقادي نوح باكٍ ولا ترنم شــــاد
وشبيهٌ صوت النعيّ إذا قِيس بصوت البشير
في كل نـــاد
أبَكَت تلكم الحمامة أم غنّت على فرع غصنها
الميّـــــــــــاد