adsense

2020/03/24 - 3:38 م


بقلم الأستاذ عبد الغني فرحتي
ــ " أيوب، كيف حالك" سأله الطبيب صديقه.
 والشعور بالخوف يجتاحه أجاب وهو يجد صعوبة في الكلام.: " الحمد لله. "لي دارها بيديه ايحلها بسنيه"، كما أنشد الفنان حميد الزاهر وكما يقول المثل الشعبي. الحمد لله. قل لي دكتور، هل من جديد؟"
ــ " للأسف العدوى تنتشر بسرعة. الوضعية بالبلاد لا تزال تحت السيطرة بفضل ما اتخذ من إجراءات احترازية. يبقى على المواطن المساهمة في ذلك، حماية له وللأخرين و.. ".
لم يتمالك يوسف نفسه فانفجر باكيا وهو يردد:
ــ " أمام العدد المتزايد للضحايا بدول كنا نظنها متقدمة وقادرة على مواجهة كل البلايا، نفضت عني تلك النزعة التشكيكية التي كانت تسكني. أدركت أن الوباء حقيقي وأن الخطر يتهدد الجميع. التزمت بالتوجيهات ودعوت كل معارفي إلى الالتزام بها. حتى مكتبي لم أزره منذ أيام. لكن..".
توقف أيوب عن الكلام بعد أن اجتاحته موجة بكاء وأنين، فتدخل الطبيب قائلا:
ــ " هون عليك اخي، ستكون إن شاء الله سحابة عابرة. ستجتاز هذه المرحلة العصيبة بسلام".
ــ " ما يؤلمني هو أني ضحيت بحياتي من أجل التفاهة. من يدري، قد أكون أيضا سببا في إيذاء زوجتي وأطفالي".  صمت أيوب قليلا  ثم قال:
ـ " دكتور، هل يمكن أن تقدم لي خدمة سأظل ممتنا لكا بها ما حييت. أريد أن أرى أطفالي وزوجتي. تحرقني نار الشوق إليهم وتزيد لآلامي آلام أخرى. ساعدني أرجوك. أريد رؤيتهم".
ــ ستراهم إن شاء الله بعد أن تظهر نتائج الكشوفات، أما حاليا، فلا يمكن. هم أيضا يخضعون في البيت للحجر الصحي وطاقم طبي يتابع أحوالهم عن كثب".
لم يكن بوسع الطبيب البقاء أكثر بجانب أيوب، فمهام أخرى تنتظره. تأكد من كل الأجهزة تشتغل بشكل عادي. انصرف وهو يردد كلمات تدعو أيوب إلى الاطمئنان وانتظار أخبار ستكون مفرحة إن شاء الله.
ردد أيوب عبارة: "اللهم أمين" مرات عديدة، قبل أن يداهمه النوم. رغم نوبات السعال التي كانت تنتابه من حين لآخر، دب في كيانه قسط من الراحة لم يزعجها سوى الكابوس المرعب الذي عاشه في منامه.
" أرى ما يشبه بحيرة متسعة الأرجاء. الغريب أنها لم تكن تجري فيها مياه كما هو معتاد، بل نيران لا تزيدها الرياح القوية إلا سعيرا. فجأة ظهر كائن عملاق ضخم يشبه الوطواط لكنه يتميز عنه بأن له جوارح مثل الإنسان. كان يمشي على رجلين ويحمل بين يديه شبكة كبيرة تكدس داخلها العديد من الناس. تبينت من خلال تفحص وجوههم وجود صديقي صاحب الصالون وجليسه. كانا يبكيان بحرارة. الغريب أنهما كانا يمسكان معا بشخص ثالث يحاول أن يتخلص من قبضتهما دون أن يفلح في ذلك. يارب، كان الشخص الثالث هو أنا. نعم أنا. اهتز كياني وأخذت أرجف وأبكي.
اقترب ذلك الكائن الغريب من البحيرة وقال مخاطبا من تضمهم الشبكة:
" أنتم من ألقيتم بأنفسكم في التهلكة. لا تستحقون العيش. سنتخلص منكم قبل أن تنشروا العدوى وتؤذوا الآخرين. أزفت ساعتكم. إلى الجحيم، إلى الجحيم".
   ألقى بالشبكة في البحيرة المستعيرة نيرانها. غمرني الذهول والدهشة. توقفت كل أعضائي عن الحركة وشلت، وحدها حاسة السمع كانت تنقل لي أصداء عن أطفالي وقد استبد بهم البكاء والعويل من هول ما حدث".
ظل أيوب مستغرقا في سباته، منغمسا في هذا الكابوس الذي اجتاحه إلى أن أيقظه صوت ممرض وهو يدعو أحد المصابين إلى عدم مغادرة غرفته. وجد نفسه يتصبب عرقا. استعاد شريط ما رأى متسائلا هل كان ما حدث حقيقة أم مجرد كابوس مزعج. أحس بنوع من الراحة، حتى صوته غدا منطلقا والسعال الذي كان ينتابه ضعفت شدته. فراح يسائل نفسه: 
  "أشعر بالراحة والسكينة. لا أدري هل هو شعور بالتحسن الذي يبشر بالشفاء من تداعيات الوباء أم هي الراحة التي تلم بالمريض منذرة، بعد أن استشرت العلة واستسلمت كل الأعضاء لقدرها المحتوم، حتى وقبل أن يكشف عن نتائج الفحوص والتحليلات التي ينتظر وصولها من معهد باستور. لست أدري، لست أدري".