adsense

2019/08/27 - 2:55 م

بقلم الأستاذ عبد الغني فرحتي 
الأمس، لبت نداء خالقها الفنانة القديرة أمينة رشيد. انتشر الخبر المؤلم عبر وسائل الإعلام بمختلف أشكالها، كما تنتشر النار في الهشيم. تسابقت العديد من الوجوه الفنية والثقافية إلى التعبير عن مشاعر الحزن والمواساة أمام فقدان هرم كبير وكبير جدا من أهرام الدراما وفنون التمثيل المغربية.
عرفنها ــ نحن جيل السبعينيات ــ عبر المسلسلات الإذاعية بصوتها القوي ولغتها العربية الفصحى وبضبطها لمخارج الحروف، قبل أن نتعرف عليها عبر شاشة التلفزة. لا أنكر أني، وأنا الطفل البريء آنذاك، وبما أنها كانت كثيرا ما كانت تؤدي أدوار المرأة الشريرة، كنت أكرهها. وهذا في حد ذاته، علامة من علامة إتقانها لعملها.
أذكر أيضا بهذه المناسبة، كيف كانت تتفاعل المدرسة مع الإعلام الوطني ومع البرامج الإذاعية والتلفزية. خلال حصة لمادة الفرنسية بالسنة الأولى ثانوي (الثانية إعدادي حسب التسمية الحالية) وكانت تتعلق بالمحادثة أو الخطابة " Elocution "، اقترح علينا الأستاذ حوارا لصحافي مع الفقيدة أمينة رشيد. وكان من ضمن أسئلته: " لماذا تختارين باستمرار أدوار المرأة الشريرة؟". أحسست من خلال ردها على الصحافي وكأننا تريد تصحيح الصورة التي كونتها وكان يكونها عنها، معظم من كان يتابع العروض التي كانت تشارك فيها. أكدت بأنها في حياتها العادية سيدة عادية وطيبة ولكن الأدوار التي تسند إليها يجب أن تؤديها بكل صدق وإتقان.
 استمر العطاء المتميز للفنانة أمينة رشيد وبصمت على الأداء الفني الاحترافي العالي سواء على خشبة المسرح أو عبر أثير الإذاعة أو شاشة السينما والتلفزة. كثيرة هي الشهادات التي يمكن أن تقال بخصوص الفقيدة. غير أن أبلغ وأقوى شهادة في حقها، هي ما شهد به مشهد كانت هي بطلته بامتياز. كانت في مواجهة بلال مرميد في برنامجه المعروف FBM، فسألها، وقد تجاوزت عقدها الثامن، هل تستطيع أن تعيد مقطعا من دور لمسرحية كانت شاركت فيها، خلال ستينيات القرن الماضي، فانطلقت، بسلاسة ودون توقف أو تلعثم، تكرر المقطع الذي كان طويلا وبلغة عربية فصحى. الأمر الذي جعل محاورها يبدي اندهاشا وإعجابا كبيرين.
 للأسف، كثير من الشموع تنطفئ تباعا دون أن نلمس من طرف الدولة ومؤسساتها، الجماعات المحلية ومراكزها الثقافية، الاعتراف اللازم، اعترافا يكون من ضمن أهدافه تعريف الأجيال الحالية بهذه الطاقات المبدعة. يشيع خبر وفاة كاتب أو فنان أو زعيم.. تقدم شهادات آنية في حق الفقيد، وينتهي الأمر. وهذا لعمري منتهى الجحود. العديد ممن ساهموا في بناء صرح الدولة المغربية الحديثة من سياسيين ومثقفين ومبدعين، يتم نسيانهم أو تناسيهم. لذلك، لا غرابة أن يفقد أطفالنا وشبابنا، في اختيارهم لنماذج يقتدون بها، البوصلة. لو قمنا باستطلاع بين شبيبتنا حول من هو: الزرقطوني، بنبركة، حدو جادور، الشعبية، المهدي المنجرة والجابري ... والقائمة طويلة، لصدمنا لجهلهم لكل شيء عن هذه الشخصيات التي امتدت شهرتها حتى خارج الوطن.
  دول كثيرة، أقل ثراء مقارنة بالمغرب، من حيث الثقافة والفن، لكنهم حرصوا على تخليد شخصيات طبعت تاريخ شعوبها عبر واجهات متعددة: أفلام وثائقية، قصص مكتوبة ومشخصة، معالم أخذت أسماؤهم. أما في بلادنا، فكثيرة هي الشوارع والمؤسسات التي تجدها تحمل إسم "فلان أو فلان" دون التعريف به وبالمجال الذي كانت له فيه بصمات. وإذا كانت الأجيال الحالية تفتقر إلى أية معرفة بهذه الشخصيات ، فكيف يمكن أن نطلب منها أن تتخذ منها القدوة والمثال. كلنا يلاحظ، الميزانيات الضخمة التي تخصص لإنجاز مسلسلات وسكيتشات، بعضها في غاية التفاهة والابتذال استعدادا لعرضها في رمضان. أما كان من اللائق صرف جزء من هذه الميزانيات في إنجاز أفلام وثائقية ودرامية ومسلسلات تاريخية، يكون الهدف منها تعريف الأجيال الحالية بشخصيات يحفل بها تاريخ المغرب القديم والحديث؟ ألا يمكن أن يساهم ذلك في تقوية اعتزاز الخلف بالسلف وبالتالي تمتين التعلق بالوطن والأمة؟
  لا نريد لهذه الفنانة القديرة، أمينة رشيد، نسأل العلي القدير أن ينعم عليها بالرحمة والمغفرة، أن تنسى بمجرد انتهاء مراسم التشييع والتأبين، كما حدث لغيرها من الوجوه السياسية والثقافية والفنية والرياضية.. في السابق، بل نريد أن تظل شمعتها مضيئة تنير طريق الخلف الطامح لغد أفضل.
 يهيمن حاليا، على الساحة الوطنية، الحديث عن بلورة نموذج تنموي جديد، وهي مناسبة للتأكيد على أن الواجهة الثقافية، بتمظهراتها المختلفة والمتعددة، ينبغي إيلاؤها أهمية قصوى كرافعة أساسية، من شأنها أن تساهم في بناء مجتمع جديد، تكون من أبرز تجلياته انفتاح المنظومة التعليمية والمؤسسات الإعلامية الوطنية على ما يزخر به تاريخنا من شخصيات بارزة ومؤثرة.