adsense

2019/08/21 - 12:48 م



بقلم : الدكتور عبد الواحد الفاسي

تحل يوم 20 غشت من كل سنة ذكرى ثورة الملك والشعب التي تمثل أكبر تعبير عن التضحية بمعناها الأسمى، والتي نادرا ما تقع في حياة الشعوب . إنها تضحية ملك همام وشهم بعرشه ليبقى في التحام وانسجام مع شعبه الذي يبادله نفس الوفاء. هذا الشعب الذي قدر معنى هذه التضحية وبات يتنافس في إبدال وتقديم التضحيات من أجل عودة ملكه الشرعي محمد الخامس ومن أجل استقلال الوطن.
وفي هذه المناسبة نحتفل بنداء القاهرة الذي بثه علال الفاسي من إذاعة صوت العرب بعد نصف ساعة من اختطاف جلالة الملك وأسرته الشريفة يوم عيد الأضحى- أكبر أعياد المسلمين - ومعاملتهم معاملة مهينة حيث نقلتهم الطائرة، قبل أن تأخذ وجهتها نحو جزيرة مدغشقر بالمحيط الهادي ،إلى جزيرة كورسيكا التي اعتاد الفرنسيون أن يعتقلوا بها القرصان المسلمين حقدا ونكاية في الإسلام . هذا الإختطاف والنفي والمعاملة المهينة لملك يمثل شعبا رافضا للإستعمار والذي وضع دولة فرنسا في صفوف الخارجين عن القانون من بين المجرمين والمارقين والمنحرفين.
وكان اختيار عيد الأضحى للقيام بهذه الجريمة ، وهو أكبر أعياد المسلمين، يدخل في نفس الإطار.
أظن أن أفضل ملخص لهذا النداء يوجد في الإهداء الذي قدمه علال للملك محمد الخامس بمناسبة صدور كتابه " نداء القاهرة " حيث قال :
" إلى جلالة محمد الخامس، القائد الذي أعطى بتضحيته المعنى السامي للملك فألهمني هذا النداء ومجموعة الإذاعيات التي ألقيتها من صوت العرب وألهم شعبه الإستجابة النفسية، فتوحدت في الفداء وانطلقت ترغم المستعمر على الإعتراف بالحق المغصوب للوطن المحبوب."
أليست هذه هي الغاية من هذا النداء ؟
" إن القوة الفرنسية (يقول علال الفاسي في نداء القاهرة) قد عملت عملها وذلك ما كنا نتوقعه في كل وقت، لأن محمد الخامس أكبر من أن يظل على عرش تُظله حماية أجنبية ".
لقد كان نداء القاهرة بمثابة الشرارة التي أعطت انطلاقة ثورة الشعب المغربي الوفي بانطلاقة العمل الوطني والكفاح بلا هوادة بجميع أشكاله فداء للملك وللوطن . هذا العمل الذي لم يتوقف إلا بعد فشل المخطط الإستعماري وانهزام القوة المحتلة وعودة جلالة الملك إلى عرشه وإلى وطنه وشعبه الأبي.
ويؤكد هذا النداء على رمزية محمد الخامس حيث جاء فيه : " ولقد اعتدت على سيادة مراكش (المغرب) وعلى عرشها وعلى الإسلام والعروبة فيها."
وهناك فقرة أساسية في هذا النداء، كان لها تأثيرها البالغ على المواطنين مما خلق القلق للإستعمار و أفقده صوابه، وربما بعد الإستقلال والنطاق الذي جاء فيه ، جعلت أنه إلى حدود وفاة علال الفاسي، أصبح نادرا جدا التطرق لهذا النداء رغم أهميته، باستثناء حزب الإستقلال الذي ظل يشير إليه في كل مناسبة للإحتفال بذكرى 20 غشت،  وذلك بسبب أصحاب الحسنات . يقول علال :
 " إنني كزعيم حزب الإستقلال وكواحد من علماء القرويين الذين لهم وحدهم حق انتخاب السلاطين ، أعلن رسميا أن الملك الشرعي لمراكش ( المغرب) كان وسيظل محمد الخامس."
 ثم يتجه في الأخير إلى الشعب المغربي لإعطاء الإنطلاقة فيقول :
" إنني أهيب بالشعب المغربي أن يواصل كفاحه من أجل الغاية الوحيدة التي هي استقلال البلاد ، وأن يبذل معنا كل ما يستطيعه من الوسائل للدب عن ملكنا الشرعي وإعادته إلى عرشه مرفوع الرأس ، موفور الكرامة ."
 فكانت الإستجابة وكان بلوغ الهدف .
ومن بين الشهادات التي سجلها التاريخ على دور نداء القاهرة في بعث ثورة الشعب المغربي ضد المستعمر المغتصب واستنفار روح المقاومة الباسلة وعلى ما تضمنه من توجيهات بالغة الأهمية الشهادات التالية:
1)        أ.  شهادة جلالة المغفور له الملك الحسن الثاني التي جاءت ضمن كلمته التأبينية في الذكرى الأربعينية  لوفاة الزعيم علال الفاسي سنة 1974 والتي جاء فيها : " وكان إبعاد الملك عن عرشه وإقصاؤه من وطنه ووطن أجداده، واعتساف المستعمرين السيادة، بعد إباء العاهل الشهم ورفضه التفريط في الأمانة، وكانت مبادرة علال لمواجهة التحدي يوم دوى نداؤه في عاصمة الكنانة بالإستنكار والتنديد والوعيد ، كل هذا كان إيدانا بثورة عارمة أعادت بأيامها المشهورة وملاحمها المأثورة الحق إلى أهله،  وأنشطت الوطن من عقاله، وأراحت عازب ما كان للبلاد قبل الإستلاب والإغتصاب من سيادة وحرية واستقلال."

    ب. شهادته طيب الله تراه التي تضمنتها كلمة جلالته بمناسبة إحياء ذكرى 20 غشت يوم السبت 20 غشت 1977 والتي جاء فيها : " وحتى في التوعية علينا أن نختار ما يمكن لمجتمعنا المغربي وبيئتنا المغربية أن تقبله وما يمكن أن ترفضه رفضا باتا . وأحسن مثال هو نداء شيخنا وأستاذنا علال الفاسي رحمة الله عليه. ذلك النداء الذي ألقاه من القاهرة في 20 غشت، يومه وعلال رحمه الله كان أولا عارفا، إذن واعيا، ولكن كان عالما بمجتمعه. ففي ندائه قال للشعب: حارب حتى تستقل البلاد ويرجع سلطانها الشرعي من منفاه ، وإن لم يكن هو فأمير الأطلس ولي عهده مولاي الحسن.
فهذا الرجل نفسه حينما نادى بالإستبسال والتضحية في أول يوم لم يقل حاربوا حتى يستقل المغرب وسكت، ولم يقل حاربوا حتى يستقل المغرب وننظر إذ ذاك في النظام، لا، لأنه كان أعلم الناس بما يمكن للمغاربة أن يقبلوه."

2)      شهادة المرحوم الأستاذ عبد الرحيم بوعبيد التي تضمنتها كلمته التأبينية بمناسبة الذكرى الأربعين لوفاة الزعيم علال الفاسي والتي  جاء فيها : " لكن التحول المصيري الذي كان إذ ذاك قد طرأ على الحركة الوطنية ، هو الإلتقاء التاريخي بين محمد الخامس طيب الله روحه وقادة حزب الإستقلال. فكانت وحدة الهدف ووحدة الرأي بين الطرفين، وكان التنسيق في العمل، والعزم الثابت على تصعيد الكفاح حتى النصر ، مهما كان الثمن، فانشرحت لهذا الميثاق التاريخي وعملت على تقويته والوفاء له خلال تلك الظروف الصعبة ، داخل المغرب وخارجه.
ولما امتدت يد الإستعمار إلى رمز سيادة البلاد والساهر الأمين على حياتها ووحدتها، كان في نفس اليوم نداء القاهرة ، الذي دعا الشعب إلى حمل السلاح وخوض معركة التحرير، فانطلقت خلايا المقاومة المسلحة من القاعدة الشعبية الوطنية، واتسعت شبكتها في المدن والقرى، وبرز أبطال من أبناء الشعب وأبناء المدرسة الوطنية الإستقلالية، في ميدان الجهاد، موجهين ضرباتهم إلى جنود الإحتلال وعملاء الإستعمار. فكانت حقيقة وبكل معنى الكلمة ثورة الملك والشعب: ثورة على الإستعمار ولكن أيضا ثورة على الأجهزة المخزنية العميلة وعلى البيوتات الأرستقراطية المتخاذلة المنحلة."

3)      شهادة المرحوم الأستاذ عبد الكريم غلاب التي جاءت ضمن كلمته التأبينية  خلال الذكرى الأربعين لوفاة الزعيم علال الفاسي والتي جاء فيها : " ... وهي الفكرة التي حملها معه يوم أعلن الثورة المسلحة في نداء القاهرة من صوت العرب عشية عشرين غشت 1953 . فقد اعتبر أن الوقت قد جاء لتعلن المقاومة عن نفسها علانية بعد أن كانت منظماتها مكونة سريا تُعِدُّ نفسها لليوم الموعود. وما كان نداء علال من القاهرة يصل إلى أسماع المقاومين حتى انطلقت الخلايا السرية التي كان الحزب قد نظمها وفي مقدمتها البطل علال بن عبد الله، تحيل حياة الإستعمار والمتعاونين معه إلى جحيم، بعد أن غصت السجون والمعتقلات والمنافي بأبناء الشعب المناضلين في صفوف حزب الإستقلال."
وخلاصة القول سأقتبس، بتصرف، من كلام علال في ذكرى وادي المخازن قوله : " إن إقامتنا لهذه الذكرى تنبهنا لمقدار الثروة  التي تحصل عليها بلادنا ، كلما التفّت حول حركة إسلامية وطنية يتزعمها رجل مخلص، وكلما وقع انسجام تام بين الشعب وبين العرش. ذلك الإنسجام الذي جعل الكل يلتف حول محمد الخامس".
هذه هي وصفة نجاح أمة ،  ولكن هل هناك من يريد ؟؟