بقلم عبدالإله الوزاني التهامي
كل المغاربة متصوفون بشكل من
الأشكال، بما نلمس في حياتهم من آثار بليغة للتصوف، المتوارثة قيمه ومثله أبا عن
جد، سواءا في العبادات أو المعاملات أو حتى الصناعات والأعمال الإنسانية كلها، إذ
كان لأقطاب التصوف دور محوري في صياغة الشخصية المغربية، على المستويات الحياتية
المختلفة.
لكننا نجد أن قضايا التصوف والزوايا في المغرب، قد مثلت نوعا من
“التابوهات”، وتم تناولها رسميا أو أكاديميا أو إعلاميا، بكثير من التحفظ المحفوف
بالتضليل، وتمت معالجتها بشكل سطحي لم ينفذ إلى أعماق التصوف ولبه، إما خوفا من
تبعات محتملة أو طمعا في التقرب إلى الطرف الماسك بزمان الشأن الديني والسياسي في
البلد.
لهذا لم يكتب لكثير من الحقائق في عالم التصوف حظ النشر والانتشار، مثل
أنماط التنظيم داخل الزاوية وطريقة تكوين الكتائب الجهادية ووسائل استقطاب الخاصة
من القبائل والعامة، والسر في نجاح عملية التحكيم بين المتنازعين والسر في تمكن
الزاوية من قيامها بالأعمال الاجتماعية الضخمة لصالح ملايين الناس دون دعم الدولة،
وبقيت كل تلك الأسرار والحقائق مدفونة ومغمورة تتداول في أوساط ضيقة، أو مجهولة
بفعل التكتم القصدي، لأن سلطة التيار
الغالب المضادة للزاوية المغضوب عليها، لم تكن تسمح بتسرب أو نشر ما يلمع
صورة زاوية تقع أصلا تحت مجهر النظرة السوداء.
و ما نشر في غالبيته لا يتجاوز سقفا مرسوما ولا يقدم صورة متكاملة الجوانب
عن تصوف الزاوية المغضوب عليها أو التي أريد لها أن تبقى في الظل، ولا يقدم أشياء
مهمة فيما يخص الإشكالات والصدامات والتجاذبات الكبرى التي طبعت علاقة القوى
السياسية والزاوياتية فيما بينها، وكمثال جلي على ذلك، فإن المغاربة لا يعرفون إلا
القشور عن علاقة القصر بالزاوية الكتانية وبرموزها، وعن علاقة الزاوية الوزانية
بالمخزن.
ولا زال المؤرخون والفقهاء والمتصوفة الرسميون ومن والاهم يعيشون بذهنية
إخفاء الحقائق، اعتقادا منهم بأنهم يستطيعون احتكار التاريخ وتقنينه وتوجيهه إلى
مالا نهاية، و ذلك خوفا من ظهور دلائل وأسرار يعتقد أنها تحط من أهمية قيمة
الماسكين بزمام الشرعية الدينية، فهم لا يرغبون في أن يعرف الشعب والمهتمون
بالتصوف الحقيقة، ولا أن يفهموا تفاصيل التاريخ والقوى الصوفية الفاعلة فيه، ليبقى
الجميع تحت سطوة السمع والطاعة ولا يتجاوزون ثقافة الانصياع، إلى درجة التفهم
والبحث عن الحقيقة والتفاعل معها وتبيانها وكشفها، ويبقى خوف المؤرخ والفاعل
الرسمي مهيمنا على كل الكتابات، حتى لا تتكون لدى عامة الناس والمهتمين بتاريخ
المغرب خاصة، قناعة مفادها أن هناك حقائق تاريخية غير التي تظهر على شاشة الواقع
الإعلامي والأكاديمي والدراسي، ميزتها أنها لا تظهر حقيقة وتخفي أخرى.
إن موضوع التصوف والزوايا في المغرب، من أعوص المواضيع التي تتطلب احتياطات
كبيرة عند تناولها، لأنه لا يعقل أن نصدق ما هو مكتوب في نصوص دبجت بأوامر فوقية،
و بأقلام مأجورة وعلى ألسن طيعة، ولا أن نعثر على الحقيقة الصادقة، التي من شأنها
عدم الميل لصالح كفة دون أخرى، وأقل دليل ما نحياه حاليا من طغيان فاحش باذخ
لزاوية معينة من موقع وزارة سيادية، ومن هيمنة
لفكر وهابي يبدع ويحرم ويكفر على هواه كل من يخالف منهجه، ظاهرة ملأت علينا
أسماعنا و أبصارنا، في القنوات والفضائيات العمومية، التي يؤدي كل المغاربة
فاتورتها الضريبية كل شهر، دون وجود تكافؤ الفرص ولا تنوع في الاستفادة من الملك
العمومي، بإحضار زوايا أخرى لإبراز ما لديها، من إبدعات وبرامج وطروحات، أخلاقية
وقيمية وسلوكية ومعاملاتية.
وفي الوقت الذي تفرش فيه الأرض أمام الزاوية التي على رأس وزارة سيادية
بالزرابي والورود الرسمية، يتم اعتراض سبيل زوايا أخرى، بالترامي على ممتلكاتها
وبتدمير معالمها التاريخية وبتدجين وتطويع نخبها وبسجن بعضهم أو تدميرهم نفسيا،
قصد إحكام طوق الحصار على كل أمل في العودة إلى ساحة الفعل الصوفي، بالوزن الذي
كانت عليه تلك الزاوية في زمن ليس ببعيد، يشهد على تحضره وتقدمه وانتساره العالم
أجمع.
ينبغي ألا ننسى بأن المرجعية الضابطة لمعيارية القيم الأخلاقية لدى الزوايا
الصوفية، هي مرجعية الوحي، بخلاف غيرهم من الحكام الحاكمين وفق أهوائهم، فإن
مرجعيتهم تستند إلى منطق القوة والغلبة والتسلط والاستبداد، وتأمين اسمرارية
التحكم في الرقاب، مستعملين في ذلك آليات “بشرية” كالوهابية على سبيل المثال،
ولوجيستية ومادية. ومن المؤسف والمجحف عدم استعمال تنوع الحقل الصوفي بوجود طرق
مختلفة في ضرب وإضعاف الزوايا الأكثر حضورا على المستوى التاريخي والجغرافي، بدلا
من استثمار هذا التنوع في الاختلاف، في تقوية الكيان الصوفي برمته والعمل على
احتضانه تحت مظلة الشرعية الدينية وآصرة القيم الإنسانية، بما يخدم الدولة
والمجتمع.