adsense

2020/08/07 - 9:33 م


بقلم عبد الحي الرايس

((بعد مُعاينة "فيديو" مُتداوَل لأُسَرٍ تفترشُ مَجْرى الوادي العابر لأوريكا، استحضرتُ ما حدث سنة 1995 وما كنتُ قد كتبتُه آنذاك في وصف ما وقع، وأجدني مُضطراً إلى إعادة نشره تنبيهاً للناس، ومُناشدةً للمسؤولين عن وقايتهم مخاطرَ الزخات الرعدية المباغتة، المُحدِثةِ للسيول الجارفة، والمُخلِّفةِ للخسائر الفادحة أن يُعجِّلوا بإخلاءِ مَجرى الوادي تحسُّباً للخطر الداهم، والسيْلِ المُفاجئ)).

كارثة أوريكا صيف 1995

الوقتُ وقتُ أصيل، وعلى ضفاف وادي أوريكة المتسَرْبلة في خُضْرتها، المتفيِّئة بظلال أشجارها، يتجمَّعُ حشْدٌ كبيرٌ من المصطافين والسياح، الفارين من لفيح الصيْف القائظ بمراكش وغيرها من المدن التي لَعْلَعَ فيها الْحَرُّ وصَوَّحَ فيها الدَّوْحُ، يستطيبون هواءً جبلياً عليلاً، ويستكينون إلى برودةٍ مُنعشةٍ وادعة.

بعضُهم نصَبَ خيمة لِيُقيمَ أيَّاماً بِليَاليها، وبعضُهم جاء لِيُمْضِيَ سحابة يَوْمِه بين أحضان الطبيعة يَلْهُو ويَمْرَح، فإذا آذنَتِ الشمسُ بِمَغِيب،عاد أدْراجَهُ إلى حيثُ يُقيم، وبعضُهم الآخرُعَرَّجَ ـ في سَفرٍـ على الوادي يتملَّى بَهاءَه، ويسْتعذبُ هواءَه ، لِيسْتأنفَ ـ بعد حِين ـ سَيْرَه ، وبعضُهم أمْسك بِدَليلِ البلاد، يَقودُهُ إلى حيثُ تثْوي الْخُضرة والجمال، والبرودةُ والاِعتدال، على بُعد كيلومترات من الرِّمال والرَّمْضاء، ونَخِيلِ مُراكشَ الحمراء.

وكعادةِ الناس في الوادي، لا يكادُ يَمْضي مساءُ يَوْمٍ دون أن ترْعِدَ السماءُ وتُرسلَ أمطاراً خفيفةً عابرة تزيدُ الواديَ دَعَة ونقاوة وصفاء.

غيْرَ أن مساءَ سابع عشر غشت من سنة 1995 لم يكنْ كباقي أَمْسِية الوادي، وإنما كان استثناءً بشُؤْمه وهَوْلِه، فقد تتالت نُذُرُه، وتلاحقتْ أحْداثُه، فاكفهرَّتِ السماءُ وتجهَّمت، ودمْدم الرعدُ وقصف، وعصَفتِ الرياح مُزمْجِرةً رافِعةً دافعة، ماءَتِ الْقِطَط، ونبحت الكلاب، والْتَمستْ لها مَخابِئَ ومَآمِن، وتفطَّنَ قِلَّةٌ من الناس إلى أن الخطرَ الداهمَ قادِم،بينما حسِبها كثيرون سحابةَ صَيْفٍ لنْ تلبث أنْ تنقشِع.

غيرَ أن السماءَ انْفتحتْ عن مطرٍ لا كالأمطار، وسَيْل لا كالسُّيول، وريحٍ لا كالرياح، فإذا الْبَرَدُ يتساقطُ مِدْرَاراً، وإذا الوادي يَجْري هَادِراً، ويَسْتحيلُ بَحْراً هائجاً، وإذا السيْلُ يَحْملُ صُخُوراً عاتية، تدُكُّ الدُّور، وتُحَطِّمُ الأشجار، تُخَرِّبُ الطرق، وتَهُدُّ الْجُسُور، تُتْلفُ مظاهرَ الْعُمران، وتَجْرِفُ معها الإنسانَ والحيوان، وكلَّ ما يَعْترضُ سَيْرها من عَرَبَةٍ وبُنْيان، الْكُلُّ صارَ صغيراً قمِيئاً أمام السَّيْل الْعَاتِي، والْهَوْلِ الطَّاغِي.

ثم تطامَنَ السيْلُ، وسَكَن الْجَو، وخيَّمَ الصمْت، فصِرْتَ لا تسْمَعُ إلا أنَّاتٍ منْ هُنا، وصيْحاتٍ من هناك، وإذا بعْضُ الناجِين تَعْقِدُ ألسنتَهم الحيْرةُ والذهُول، فتراهُم سُكارَى وما همْ بسُكارَى، ولكنَّ هَوْلَ الكارثةِ شديد.

وإذْ آبَ الناسُ إلى أنفسهم ذَكَرُوا غَرْقى بالْجُمْلَة، ومَحْمُولاتٍ بالقوة، مَرَّتْ تحتَ أبْصارهم، فما استطاعُوا لها إنقاذاً ولا تخْليصاً.

وهاهُمْ يَهيمُون على وجوههم يُعاينُون فداحة الكارثة، وإنهم لَيَذْهَلُونَ ثانيةً عن أنفسهم فيهُبُّون لنجْدةِ مُسْتغيث، وإسْعافِ جريح، وانْتشالِ غريق .

فهذا مُتشبثٌ بأغصانِ شجرةٍ أفْلتتْ من الاقتلاع، والماءُ من تحته يتهدَّدُهُ بالابتلاع، وذاك جريحٌ تحت صخرة لا يقوى لها على تحريك، ومن حولهما الدمارُ والضياع، فأين القريب؟ أين الحليل؟ أين الزوجة؟ أين الأب؟ أين المتاع؟ بل أين الأمنُ والسلام ؟

هَوْلٌ وهَرْجٌ، وتدافعٌ وتساؤل، وبحثٌ وعَناء، وفِتنة وضَياع، تلك حالةُ الناجين الذين لم يعودُوا يَدْرُون: أباِلنجاة يَسْعدون؟ أمْ على ضياع المالِ والمَتاع، وفُقدان الأعزة والأحبابِ يأْسَوْنَ ويأسَفُون ؟