adsense

2015/03/29 - 10:21 ص


الإرهاب والديمقراطية
حسن طارق
حسن طارق : كاتب وباحث مغربي

في الأصل، يشكل الإرهاب رديفاً للموت ونفياً للحياة. إنه اعتداءٌ جذريٌ على أسس العيش المُشترك. وفي السياسة، يبقى الإرهاب تقويضاً لفكرة الاجتماع السياسي والمدني. لذلك، هو يستهدف الدولة ورموزها، كما قد يستهدف المجتمع في تفاصيلِ يومياته العادية. 
وسط الدماء والضحايا، ومن قلب التوحش والبربرية، لا يخفي القائمون وراء المشروع الإرهابي هدفهم السياسي الأخير، الاستيلاء على السّلطة. في الطريق نحو ذلك، يظل سبيلُ إضعاف الدولة ورمي المؤسسات في دائرة الهشاشة والارتباك بمثابة الوسيلة الأكثر تجريباً. 
يُحاول الإرهاب استنزاف قدرة الدولة على احتضان الاجتماع السياسي، وتعطيل وظيفة إشاعة الثقة في مؤسساتها وأجهزتها، وتجميد دورها الأول في حماية المجتمع والأفراد. 
بين الاستنزاف والتعطيل والتجميد، تبدو معركة الإرهاب طاحنة، لعزل الدولة عن المجتمع، حتى يُنزع عنها رداء الشرعية، وتصابُ قدرتها المؤسسية في ضمان أمن الأفراد وحريات المجتمع بفشلٍ مزمنٍ. 
لذلك، يُعد الإرهاب، في الواقع، تحدياً وإرباكاً صعباً للديمقراطية، ومساءلة حادةً لفرضيتها التأسيسية التي تكمنُ في الجمع بين الدولة والمجتمع، الأمن والحرية، الحقوق والقانون. 
يضع الإرهاب الديمقراطية في مأزقٍ صعبٍ: كيف نواجه أعداء للدولة، من دون التضحية بالقانون؟ كيف تُواجِهُ المساطر والإجراءات والمُؤسسات رغبات القتل والتدمير والتفجير؟ كيف تنتصر السياسة والمدنية على الهمجية؟ 
التفكير في ثنائية الإرهاب والديمقراطية يسمحُ، على سبيل المناسبة، بالنظر في بعض مفارقات الخطابات السياسية التي أنتجها التفاعل مع الحدث الإرهابي الذي ضرب، أخيراً، العاصمة التونسية. 
الواقعُ أننا أمام علاقةٍ موسومةٍ بالتعقد، على الرغم من أنه، في البلاغة السائدة التي تلي عادةً صدمة "الإرهاب"، كثيراً ما نجري وراء السهولة، عندما نعتبر أن "الإرهاب يستهدف الديمقراطية"، ثم نُكمل باقي صيغ الإدانة والتنديد، ونحن نعرف أن الإرهاب استهدفنا كذلك في زمن الاستبداد، وفي تاريخ ما قبل "الربيع العربي". 
يذهب بعضنا أكثر من ذلك، عندما يُطور تحليلاً يربط بين التراجعات في مسار الدمقرطة و"عودة الإرهاب"، لكي يخلص، في النهاية، بكل ثقة ويقينية، إلى أن استئناف مشروع الديمقراطية الذي لاح مع انفجارات 2011 وحده يستطيع كنس الظاهرة الإرهابية من عتبات مجتمعاتنا. 
 
لنتذكّر، كيف أننا، في غمرة الاحتفال بثورات الربيع العربي، اعتبرنا أن عودة الشعوب تزامنت مع أفول الإرهاب. قبل أن نصحو من غفوة الحالمين على جلبة الرؤوس المقطوعة والمتناثرة على العلم الأسود لكيان "الدولة الإسلامية". السببية البسيطة لا تبدو، في العمق، قادرة على قراءة أبعاد العلاقة بين الإرهاب والديمقراطية، فالواقع أن ما قد نلوح به من حديثٍ عن الديمقراطية ترياقاً للإرهاب، لا يعدو أن يخرج عن باب "الحجج النضالية" المسموح بها! 
من دُون ذلك، وبشكلٍ لا يمكن مقارنته مع سذاجة الديمقراطيين، وهم يُلوِحون، عبثاً، للمُستبدين بالتهديد الإرهابي كجزاءٍ تاريخي للخروج عن المسار الديمقراطي، يستطيع فعلياً مُمثلو المحافظة وقوى الماضي داخل مجتمعاتنا استخدام الخطر الإرهابي، لتبرير العودة المتضخمة للهواجس الأمنية لدولة ما بعد 2011. 
لذلك، ليس الإرهاب، اليوم، مُجرد متغير تابع لطبيعة الأنظمة السياسية. إنه مكونٌ من مكونات "روح العصر" الحالي، وواحدٌ من ثوابت مرحلة تاريخية بأكملها. 
المؤكد أن هذا الإقرار ليس بوابةً للتسليم بقدرية الظاهرة، وللاستسلامٍ المذلّ، وغير الأخلاقي، أمام همجيتها وفظاعتها. إنه مُجرد مدخل أوليّ لفهمٍ أعمق لتاريخيتها ولتحولاتها ولآفاقها، في علاقة بالمجتمعات العربية، وبالدين الإسلامي، وبتفاصيل الشرط السياسي والاقتصادي والثقافي الذي يجتازه العالم. 
يستطيع الإرهاب، في عصرنا هذا، أن يوهمنا بتقمص حالة من حالات الانتفاض على "الاستبداد الداخلي" أو "اللاعدالة الدولية"، بالقدر الذي يُمكنه أن يتغذى من هشاشة البناء الديمقراطي، سواءٌ في حالات الانتقال، أو في وضعيات استكمال التدعيم المؤسساتي. 
كما يستطيع أن يظهر جواباً "مُتوهّماً" و"تراجيدياً" على شروخ الهوية، بالقدر الذي يمكنه أن ينتعش من الفراغات الفكرية والقيمية والروحية المهولة للأجيال الجديدة من الشباب. 
يستطيع الإرهاب أن يلبس أكثر من ثوبٍ، لكننا في كل الحالات ملزمون بتفادي البحث عن تبريرات له، إذ ليس هناك من مبرر للقتل والوحشية، كما أننا، في جميع السياقات، مُحتاجون، بأقوى ما نملك من أصوات، إلى إدانته إدانة مطلقة بلا شروط واقفة، ولا مساومات.