adsense

/www.alqalamlhor.com

2025/05/17 - 11:58 ص

بقلم الأستاذ حميد طولست

حين يرى الخضوع خديعة: تأملات في منطق "الممانعة الصوتية"

ارتايت أن أبدأ مقالتي اليوم من قولة المفكر السعودي عبد الله القصيمي إن العرب "ظاهرة صوتية"، التي يقصد بذلك شعوبًا تصرخ أكثر مما تفكر، وتحتج أكثر مما تتدبر، وتثور بالكلام وتخنع بالفعل. اليوم، بعد عقود على هذه المقولة، نكتشف أنها وجدت لها في المغرب أتباعًا جدداً، ولكن في طيفٍ لم يكن متوقعًا: المتمثل في بعض الإسلامويين الذين يعتبرون أنفسهم طليعة الوعي السياسي وعمق التحليل الاستراتيجي، فإذا بهم – من حيث لا يشعرون – يجسدون تلك الظاهرة الصوتية بصيغة "شرعية" وحركية.

هؤلاء لا يقتصرون على رفع الشعارات الكبرى، بل يصرّون على تفسير العالم حسب منطق "التمكين المؤجل" و"الخديعة الدائمة". ومن آخر إبداعاتهم: أن محمد بن سلمان في السعودية، وأمير قطر وأبو محمد الجولاني في إدلب، خدعوا دونالد ترامب أثناء زيارته لهم! نعم، خدعوه! رغم كل ما حدث، وكل ما جرى، وكل ما أُعلِن من اتفاقيات وسُجّل من صفقات.

من يراقب هذا النوع من الخطاب من منطق "الخديعة" والانتصارات الوهمية في زمن الخضوع الكامل ، يعتقد أن السياسة الأميركية مجرد مسرح أطفال، يمكن أن يُخدع فيه رئيس أكبر قوة في العالم بكوب شاي عربي، أو جلسة سمر مع "أهل المروءة". فأن تُنتزع من خزينتك مئات المليارات في صفقات لا تخفى على أحد، وتُمنح قواعد عسكرية وأمنية، وتُطبّع العلاقات مع إسرائيل علنًا، كل ذلك لا يهم... المهم أن بعض الإسلامويين يعتقدون أن ترامب خرج من زيارته للمنطقة "مخدوعًا".

هنا، ينقلب المنطق، ويتحول الضعف إلى دهاء، والتبعية إلى عبقرية، والانبطاح إلى فخ سياسي نُصب ببراعة فائقة. أليس هذا هو "الإبداع الثوري" الجديد؟

الطي يصعب فيه الاعتراف بالهزيمة النفسية والسياسية . فهؤلاء لا يستطيعون – لا فكريًا ولا عاطفيًا – الإقرار بأن من يعتبرونهم "إخوانًا في الدين أو الثورة" يمكن أن يخضعوا أو ينقلبوا على شعاراتهم. لذلك، يُضطرون إلى إعادة تفسير كل حدث بمفاهيم لا تعترف بالواقع. وما لا يُناسب سرديتهم، يُعاد تأويله كـ"خدعة عظيمة" أوقعت العدو في فخ لا نراه نحن، لأننا "سطحيون".العدوى الإخوانجية التي وصلت قراءاتها إلى بعض الشباب المغربي المتدين، الذين انتقلوا من همّ الإصلاح الداخلي ومساءلة الدولة إلى تبني سرديات الخارج، خاصة القادم من تركيا وقطر، مع رشة تأثر بنشرات قنوات "الممانعة" وخطابات "النهضة".

الذي تجد الشاب منهم لم يقرأ دستور بلده، ولا يعرف طبيعة السياسة المحلية، يتحدث بثقة عن "العمق الاستراتيجي للزيارة الأميركية"، أو "التحول الجيوسياسي لملف الشام"، كأن السياسة أصبحت لغزًا مقدسًا لا يفك شفراته إلا من حفظ مؤلفات سيد قطب، وتابع خطابات أردوغان.

لا أحد يشكك في نوايا هؤلاء أو إيمانهم بقضيتهم، ولكن حين يتحول الوعي السياسي إلى طقوس مغلقة، تُعيد إنتاج الأوهام، وتمنح الهزائم أسماءً جديدة (تكتيك، خداع، مناورة)، فإننا ننتقل من السياسة إلى الطقوس... ومن التحليل إلى التهويم.

إن من يعتبر نفسه انتصر لأنه أقنع أتباعه بأن الهزيمة خديعة، لا يبني مشروعًا، بل يجهز لجولة جديدة من خيبات الأمل. وذلك منطق "الممانعة الصوتية" وعواقبه لدى هؤلاء الذين لا يخدعون ترامب، بل يخدعون أنفسهم، ويُصادرون وعي جمهورهم، ويربّون أجيالًا على أوهام الخلاص المؤجل والانتصار المؤجل والخلافة القادمة، دون أي جهد جاد لتحليل الواقع أو تقديم البدائل.

في النهاية، هم بالفعل "ظاهرة صوتية"...

لكنها هذه المرة ليست فقط مرتفعة النبرة، بل شديدة الإزعاج.