adsense

2022/03/15 - 11:28 ص

بقلم الأستاذ عبد العزيز بوناصر

لا يخفى على كل ذي لب سليم ما تعيشه مجتمعاتنا المعاصرة من انهيار أخلاقي، وانحلال سلوكي، غدا العيش بعيدا عنه فلتة من الصعب اعتمادها في سبيل الاستدلال على صلاح المجتمع، كيف لا، والأخلاق أس الأمم، وملاطها الذي به تتماسك آرابها، وتصان كرامتها، فهي السابغة الواقية من مسببات الانهيار وعلل الانحلال، فقيام الدول وبقاؤها، رهين بالثبات على المنهج الأخلاقي السوي، وهذا ما أشار إليه شوقي رحمة الله عليه، في قوله:

إنما الأمم الأخلاق ما بقيت

فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا

فالناظر في تاريخ الحضارة الإسلامية أول أمرها، يجد أن المسلمين كانوا أحرص الناس على العناية والاهتبال بالكتب، وعلى تقدير العلم وذويه، لذلك باتوا مصدرا أصيلا للثقافة والمعرفة بالنسبة للحضارات والأمم الأخرى؛  وهذا بفضل نزول القرآن الكريم، الذي جاء معه الأمر بالقراءة والكتابة والتعلم، فدونه المسلمون، وقرؤوه، وفهموا فحواه وما حواه وائتمروا بأمره وانتهوا عن نهيه، فكان ذلك عاملا مباشرا ﻹنشاء حضارتهم الوضاءة.

فلو فتشت لتجد أمة سارت على مهيع المسلمين في طلب العلم والإخلاص في تحصيله، وجعله عبادة لله يتعبد بها العلماء، فضلا على المتعلمين، لوجدت ذلك ضربا من المستحيل أو يكاد، فما شهد التاريخ قبل المسلمين أمة حصلت، ونقدت، وتحققت، ودققت كما هو شأن اﻷمة الإسلامية أيام عزها وشموخها، سيما في علم الحديث رواية ودراية، هذا العلم الذي يعد من أدق العلوم التي عرفتها البشرية طرا، زد على ذلك علوم اللغة والشريعة والعلوم الطبيعية، وغيرها... وقد كانت نتيجة ذلك كله كما لا يخفى على من يتصفح كتب التاريخ الإسلامي، أن خرجت الأمة حفظة القرآن، وأئمة اللغة والشريعة وحكماء، ورياضيين، وفلكيين وأطباء غيروا العالم بعلمهم واختراعاتهم.

لكن الذي يحز في النفس حقا، أن تجد قاعدة عريضة من أبناء المسلمين اليوم، تجهل تمام الجهل مثل هؤلاء الأعلام الشامخة، الذين كانوا يمثلون للعالم بعلمهم ما تمثله الجبال الشماء للأرض من تحقيق توازنها، وقد تجد من يعرفهم، ولكنه حالت التبعية الغربية بينه وبين الاعتراف بمجهوداتهم وفضلهم على الأمة،  فهو متماد في غيه سائر وراء ذلكم التيار الذي لو استوقف نفسه هنيهة وتأمل، لتبين له، رغم ما حققه وبلغه في ظل ما أصاب الأمة من سبات عميق، أنه حينما كان المسلمون أسياد الأمم سياسة واقتصادا وثقافة وعلوما ومعارف وحروبا، كان يتخبط في أعصر الجهالة والدجى، والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى.

وخير شاهد على ذلك أن الحاضرة الأندلسية وحدها كان بها ما يربو عن ستين مكتبة عامة، أعظمها مكتبة قرطبة؛ عاصمة الخلافة الأندلسية، ومقر التدبير السياسي لجميع أصقاع منطقة  الغرب الإسلامي ساعتئذ...

قال ابن فياض: " كان بالربض الشرقي من قرطبة مائة وسبعون امرأة كلهن يكتبن المصاحف بالخط الكوفي." 

ومع أن هذا الدليل ليس إلا نغب من بحر، فإنه يقطع الشك بأن النهضة العلمية، والحركة الثقافية بالغرب الإسلامي كانت قد بلغت مبلغا عظيما.

لكن كثيرا من الناس يتساءلون الآن قائلين: ما السر في سقوط الحضارة الأندلسية، خاصة بعد بلوغها ما بلغته من التقدم العلمي والازدهار الحضاري،  والرقي العمراني؟؟؟

نقول هذا السؤال الكبير المحير للألباب، والمسيل لمداد أقلام كثير من علماء الأمة وغيرها،  يجيبنا عنه باختصار، نجم من تلكم النجوم الساطعة في سماء الأندلس، والتي استنارت بنوره، إنه أبو العباس القرطبي شارح كتاب مختصر مسلم قال: "إنما ذلك لشيوع الفواحش منهم بالإجماع؛ من شبانهم بالفعل ومن شيوخهم بالإقرار، فسلط الله عليهم عدوهم فمكث ذلك التسليط إلى أن أزالهم بالكلية. "

 من هنا نعود لنؤكد أن القضية، قضية أخلاق وقيم، فإذا تأملنا جل إن لم أقل كل الحضارات التي سقطت على مر الأعصر التاريخية، وجدنا علة ذبول زهرتها بعد أن كانت تفوح عطرا، هو عدولها عن المنهج الأخلاقي الذي ينم عن السنن الكونية، وهذا ما تؤكده جميع نظريات نشأة الدول والأمم، وما الحضارة الإسلامية إلا أنموذج مر من الحالة عينها.

قال تعالى: وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها، ففسقوا فيها، فحق عليها القول، فدمرناها تدميرا. الاسراء:16

وفحوى هذه الآية، هو حاصل قول ابن خلدون: " إذا تأذن الله بانقراض الملك من أمة، حملهم على ارتكاب المذمومات، وانتحال الرذائل وسلوك طريقها"

 وهذا بالفعل ما حدث في الأندلس، وأفضى إلى  ما أفضى إليه من ضياعها.

فيا من ينتحب على ما مضى من الأمجاد ، ويطمح إلى أوبة عهود الأجداد، ويذوب قلبه كمدا جراء السبات الذي يحياه الأحفاد، ويتجرع مرارة الخنوع والانقياد، عليك بالدين والأخلاق، سبيلي تحقق الفضيلة في المجتمع، وفي ماضينا التليد خير مثال على ذلك، فمذ أن تخلينا  عن دستورنا المتمثل في ذلك الكتاب الذي اجتجن بين دفتيه سعادة هذه الأمة الميمونة في الدنيا والآخرة، إضافة إلى سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم، المبعوث لإتمام مكارم الأخلاق، فشلنا وذهبت ريحنا و صرنا نخبط خبط عشواء ونعربد كالسكران، وانقدح زنادنا بسبب جمرة العدو بيننا، فأصبحنا فريسة سهلة الاصطياد، وبغية هينة المنال أمام غريمنا الذي تمكن من إحكام قبضته علينا، حيث بات يصنع بنا ما شاء وقتما شاء وكيفما شاء... فاللهم يارب رد بنا إلى دينك ردا جميلا.