adsense

2016/10/04 - 4:39 م



بقلم الأستاذ حميد طولست


وأنا أسبح في بحور العم "جوجل" الزاخرة بالذخائر والنفائس ، عثرت صدفة على معلومة غريبة مفادها أن التقويم الفرنسي خصص يوما عالميا للإحتفال بالحمار وتكريمه ، إلى هنا تبقى المعلومة جد عادية لما نعرفه عن الغربيين من إهتمام بالحيوان وعطف عليها ، لكن الأمر الغريب في المعلومة والذي أثار استغرابي وأدهشني ، هو أن ذاك اليوم الذي حدده الفرنسيون للإحتفال بالحمار في السادس من أكتوبر ، يأتي مباشرة  بعد الخامس من أكتوبر ، الذي يصادف اليوم العالمي الذي يحتفل فيه بالمعلم منذ عام 1994، وبذكرى توقيع التوصية المشتركة الصادرة عن منظمة العمل الدولية ومنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) عام 1966 والمتعلقة بأوضاع المعلمين ، تحت مسمى "اليوم العالمي للمعلم" ،  فهل هي مجرد صدفة ؟ أم أن في الأمر "إن" ؟؟.
ورغم حساسية الموضوع وحرجية الخوض فيه ، وما يمكن أن يجره علي من سخط بعض الزملاء رجال التعليم ، الذين كنت منهم لعقود ثلاثة ،  أو ما يمكن أن يثيره في غيرهم الآخر من ضحك هستيري ؛ فقد قررت أن أغامر  في الكتابة في هذا الموضوع الطريف الذي استهوتني فكرته التي ربما لم يكتب فيها عنها قط ، فسبرت أغوار حياة المعلم وخباياه –مدفوعا بفضول غريب لم استطع مقاومته  - وأقارن بين أوضاعه وهذا الحيوان، لعلي أقتنص أجوبة شافية لأوجه الشبه ، متمنيا أن يتقبل زملائي المعلمين الأمر بشيء من الواقعية المجردة عن الأفكار الجاهزة ، والأحكام المسبقة المبيتة ، والظنون الآثمة التي يمكن تحسب أن في الأمر تمرير لـ"حَيْوَنَة الإنسان " كما تروج بعض المقارنات المشينة ،  وأتمنى أن يأخذوا الموضوع على أنه وبكل بساطة ، من باب التفكر في خلق الله الذي أمرنا سبحانه وتعالى بالتفكر فيه ، وأثنى على من يفعل ذلك مصداقا لقوله تعالى : " وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ" [الجاثية : 13]، وقوله الذي جمع فيه سبحانه وتعالى بين ذكر الحيوان والإنسان والكون ، لاشتراكه معها في الخلق : "وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ" [الأنعام : 38] ، كما أرجو صادقا أن يفهموا أني ما  بحثت في الموضوع إلا انطلاقا من مسلمة أن كل شيء في هذا الكون ، مهما صغُر أو كَبُر ، إلا ويمكن مقارنته بسائر الأشياء الأخرى حتى المختلفة عنه ، لأن أي شيء مهما اختلف عن غيره في الخواص والسمات ، لامناص له من أن يشترك مع غيره في خواصٍ وسماتٍ أخرى ، وأنه لابد لكل شيء مهما شابه أو ماثَل غيره ، من أن يختلف معه وعنه في جوانب ونواحٍ أخرى" ، وعلى أساس أن المقارنة وسيلة للتفكير والبحث عن أوجه الشبه والاختلاف أو الفَرْق أو التباين بين شيئين ، تستعمل للتوصُّل إلى "حقائق الأمور" عن طريق مقابلة الأضداد ، كما ورد في مشهور الكلام أنه " بضدها تتبين الأشياء ، وبالضد يظهر حسنه الضد " وكما جاء في قوله سبحانه :" مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ" [الجمعة : 5] .
على العموم ، ودونما تحيز للمعلم أو للحمار ، فقد وجدت أن كلاهما كان يحظى عبر سنينه الطويلة ، بالمعاملة الطيبة العامرة بالتقدير والعرفان على ما حمله من كبير الأعباء وأشقاها ، والتي لا يمكن لأي كان انكار ما كان عليه المعلم قديمًا من احترام وتقدير وتبجيل وامتداح ، ترجمه الأدباء والمؤلفون والشعراء والكتاب إلى قصص وحكايات ومقالات وقصائد توارثتها الأجيال في تبجيله ، أشهرها البيت الشعري لأمير الشعراء أحمد شوقي الذي قال فيه:     *
      قم للمعلم وفه التبجيل       كاد المعلم أن يكون رسولا
وقصة الأمين والمأمون اللذان كانا يتسابقان لمناولة معلمهما نعله ، وغيرها كثير من الأشعار والروايات والقصص التي تحكي المعاملة الطيبة التي كان يحظى بها المعلم في كل العصور وعند كل المجتمعات ، لما قدمه ويقدمه لها من خدمات جليلة كان فيها كالشمعة تحترق لتنير ما حولها ..
 أما صورة الحمار ، ذاك الحيوان الوديع ، المذكور في كتاب الله المبين ومعظم الكتب المقدسة والقصص الدينية ، والذي كان مصاحبا للرسل والأنبياء أثناء نشر رسالاتهم ، وملهما لأعمال عشرات الأدباء والكتاب والباحثين عبر العالم ، الذين سجلوا تاريخ حضوره الفعال في عالم البشر على مدى العصور ، من خلال الدراسات والكتابات والروايات والقصص التي خصوه بها ، والتي كان من أقدمها رواية "الحمار الذهبي" "للوكيوس أبوليوس" والتي يحكي فيها تجاربه مع البشر ، ويصف مزاجهم ورغبتهم في تغيير غيرهم بالقوة والعنف ، بدل التسامح الذي يميزه ، وقصيدة "الحمار" التي أمضى  هوجو مدة طويلة من الزمن في نظمها ، والتي يحاور فيها الحمار المسمى :"باسيانس" patience  (أي الصبر باللغة الفرنسية) الفيلسوف "كانت" Immanuel Kant على مدى خمس وستين صفحة ، والذي لم يجد معها "كانت" أي حجة عقلانية يقارع بها مرافعة patience الانفعالية  سوى الاستسلام في نهاية القصيدة لآراء الحمار والاقتناع بصوابها ، وقد استخلص هوغو أن هذا الحمار هو أنبل من سقراط وأعظم من أفلاطون .
و "كتاب الحيوان" الذي حتى إذا لم يكن أول دراسة علمية للجاحظ عن الحمار ، فما من شك في أنه يمثل أول وأوسع دراسة وصلت إلينا كاملة ، تناولت وبشكل شامل ومفصل كل ما كان معروفاً عن الحمار في القرن الثالث الهجري ..
ورغم كل ما سبق ، فإن من سوء طالعهما أن جاء عليهما زمن قوبل فيه كل ما تحملاه من أعباء ومسؤوليات ثقيلة خلال ألوف السنين ، بالإجحاف والتنكر والجحود المقيت الذي تعدى درجة التنكيت واللفظ الغليظ ، إلى صياغة الوجدان الشعبي العام ، في كل العالم العربي عامته ، صورة مزريَّة لهما ، بائسة تلامس العداء الشرس ، وأمثالا سيِّئة شائنة تقارب الاحتقار ، تداولها المخزون الثقافي بلا شفقة ، ورددتها الأمثال الشعبية المجتمعية بدون احترام أو تقدير ، ضدا على استماتتهما  في تقديم جليل الخدمات للإنسانية جمعاء ، كل حسب اختصاصه ؛  ما أدى بهما ، مع الأسف ، إلى ضياع المكانة ، وفقدان الاحترام وتقليل التقدير ، من طرف الذين لا يتمتعون بالسلوك الحسن .. فباتا معها يئنان ويتوجعان من مقارنة حالهما اليوم بما كان يفعله معهما ناس الزمن الماضي ، حيث كان الطالب منهم إذا رأى معلمًا قادمًا من جهة رجع هو من جهة أخرى احتراما وتبجيلا..
أما الحمار فيتألم  هو الآخر ، من استغناء إنسان اليوم عن خدماته ، وأنكار لحظات حاجته الماسة إليه ، ووجوه الانتفاع العديدة والمتنوعة به ، كالركوب والزينة والدفء واللبن وحتى الأكل  ، والتي ذكرها الله سبحانه في سورة النحل ، في قوله تعالى:  "وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ " وأصبح ينظر إليه اليوم بدونية واحتقار وقسوة ، بعد أن كان يحتل مرتبة الشرف لدى الكثير من التجمعات الزراعية وبعض المدن العتيقة إلى درجة أن دمشق وصفت في الكتابات المسمارية بأنها مدينة الحمير، وفاس التي لا يمكن تخيل الحياة فيها من دون الحمار رغم دخول البشرية القرن الواحد والعشرين وظهور السيارات والقطارات والدراجات التي جعلت مكانة الحمار تتراجع معها كثيراً حتى أوشك على الانقراض الكثير من مدن العالم نهائياً.
واختم مقالتي الطريفة بما كتبه " جورج دي بوفون Georges-Louis Leclerc" في الحمار حيث قال: "لو تم إيلاء الحمار الاهتمام نفسه الذي يلقاه الحصان ، ولو أتعبنا أنفسنا بتربيته كما نربي الخيول ، فما من شك في أن الحمار سيكون قادراً على أداء أمور ليست مجهولة إلا لأنه بين أيادي أناس قساة من ذوي الطباع الخشنة".