adsense

2023/02/22 - 7:37 م

عبدالإله الوزاني التهامي

بعد عام ونيف من الجهود المبذولة في البحث عن بعض أسرار وخبايا ومظاهر حياة رجل أفنى حياته في طلب العلم والبحث والتحقيق، ربطت الاتصال أثناءها ببعض أقارب ومعاصري المترجم له "سعيد أعراب"، تمكنت من الحصول على معلومات وحقائق نفيسة تسلط الضوء على أهم المحطات التي مر منها الرجل، رحمة الله عليه.

وكان من المقرر نشر هذه الترجمة فور الانتهاء من نشر الترجمة التي أعددتها حول الأستاذ الصوفي والأديب الشريف سيدي التهامي الوزاني على صفحات جريدة الشمال الورقية، التي لها الفضل في نفض غبار النسيان ورفع حجب الإهمال عن شخصيات ورجالات الشمال المغاور، إلا أن ظروفا حالت دون ذلك، والحق أن لكل أجل كتاب.

وبقيت أوراقي المتعلقة بالموضوع مبعثرة لمدة، بين ثنايا الملفات والكتب المتوفرة في خزانتي، تنتظر وقت جمعها وبناء وتركيب وحداتها، إلى أن سمعت خبر وفاة المترجم له الأستاذ سعيد أعراب.

نزل علي الخبر كالصاعقة، وأحسست بالغبن إذ طالما حاولت زيارته في منزله، إلا أنني أقنع كلما هممت بذلك بأن حالة -فقيدنا- لا تسمح بالزيارة: "فهو مريض طريح الفراش ولا يقربه إلا أقرب أقربائه"، على حد قول مقربيه، فعزاؤنا واحد، ورحم الله سيدي سعيد وأسكنه فسيح جنانه.

وفي هذه الترجمة وحتى لا نبخس المرحوم حقه، سأحاول الحفر في حياته عامة، وفي جانبها العلمي والثقافي خاصة، مبرزا أهم محطات حياته، منذ النشأة مرورا بمرحلة التمدرس بالجوامع، وهجرته إلى الحاضرة قصد طلب العلم، والوظائف التي تقلدها وغير ذلك.

وهدفنا من هذا البحث تسليط الضوء كما أسلفت على رجل من رجالات الشمال الذين أغنوا ميادين العلم والبحث والتحقيق في صمت وخفاء، إلى أن لبوا نداء ربهم في سكينة وطمأنينة، معززا بحثي بشهادات مفكرين وأدباء ومثقفين اعتمدت في بحوث جامعية حول الرجل، وشهادات شفهية التقطت من أفواه من خبروه عن قرب، وحتى يكون البحث أكثر غنى، سأطعمه من حين لآخر بإشارات حول بعض المناطق ذات الارتباط، وكذا بعض الصور والشواهد.

إشارات أولية حول زمان ومكان نشأة سعيد أعراب:

التحقت والدة سعيد أعراب بالرفيق الأعلى في الشهر الرابع من عمر -سعيد- وأسرع سكان القرية إلى دفنها مخافة أن يهاجمهم أهل القبائل المجاورة لما عرفته هذه الفترة من أوائل القرن العشرين الميلادي من فوضى واضطرابات وسيبة، إذ لم يستطع أي حاكم ردع القبائل وإخماد نار الفتن، فكانت الأسرة أو العائلة القوية تهاجم الأخرى وتستولي على ما طاب لها من الأمتعة والقوت والأرض، وكانت حرية التنقل مستحيلة لنفس الأسباب إلا بمعية "الزطاطة" أي حارس مأجور، ولا يمكن لأي كان التصرف في ملكه ورزقه إلا إذا كان أصبعه على زناد بندقيته.

ظاهرة "السيبة" هاته كما يقول أغلب المهتمين كانت تعبيرا عن تمرد أهالي القبائل وخروجهم عن  سلطة حاكم تلك الفترة، ردا على سياسة مسيئة صدرت منه.

وكانت هذه الظروف عاملا رئيسيا في هجرة كثير من أسر غمارة وأفرادها نحو المدن للاستقرار بها، ولم تهدأ هذه الفتن إلا بسبب نشوب الحرب بين الإسبان والقبائل الجبلية المتحالفة بما في ذلك غمارة، وكان اجتماع رؤساء وفقهاء وأشراف هذه القبائل بدوار مجاور لتطوان، يسمى دار بن قريش، وهو بمثابة مقر قيادتهم ورباط لجيوشهم، تلت هذه الاجتماعات عشرات المعارك تكبد فيها الإسبان خسائر جسيمة مست أرواح وعتاد جنودهم. (1)

بعد ذلك توحدت القوتان الجبلية والريفية على يد الزعيم محمد بن عبدالكريم الخطابي ورموز القبائل المذكورة وشيوخ زواياهم، ضد الاستعمار الفرنسي الموجود بالداخل المغربي، وضد المستعمر الإسباني المستفرد بشمال المغرب، وتروي بعض الوثائق الإسبانية أنه في مطلع عام 1926، خرج إلى ورغة ما يقارب خمسمائة وألف مقاتل من الريفيين، ونحو ألف من الرماة الغماريين، معززين بمائتين من رجال المدفعية (2)، فتخلت فرنسا نتيجة تلك المواجهات عن مواقع استراتيجية كانت قد احتلتها، وأبرز هذه المعارك "معركة البرابر"، فقد فيها أيضا مجاهدو غمارة كثير من أصحابهم.

ولما كان سعيد أعراب بزاوية ابن صالح بمتيوة يقرأ القرآن على يد عمه، هاجم الجيش الإسباني المنطقة بحثا عن المجاهدين المعتصمين بالجبال، إلا أن حملاتهم باءت بالفشل، وكان يقود الجيش الإسباني قائد يجيد النطق باللسان العربي الدارج، ويلبس جلبابين، السفلي أبيض وفوقه آخر أسود، تماما كما يلبس المغاربة مشايخ وأعيانا وعامة، وكان يحث أبناءه على حفظ القرآن بالمسيد، وهذه الحيل كلها ترمي إلى التغلغل في المحيط الاجتماعي لأهل غمارة قصد دراسة شؤونهم الخفية والظاهرة، ويتسنى له التجسس على الكتائب الجهادية ومكامن قوة ساكنة الجبال.

في هذه الأجواء نشأ سعيد أعراب، دون أن نغفل ما كان سائدا في تلك الحقبة من مدارس وكتاتيب قرآنية في شتى ربوع غمارة، كان لها الدور البارز في نشر العلم وإشاعة الثقافة ومحو الأمية.

ويذكر أن المستعمر كان يتغاضى عن مثل هذه المدارس، لكنه في المقابل عمد إلى منهجية خطيرة تتمثل في منعه لتدريس علوم الكون وعلوم القرآن والحديث والاقتصار على الحفظ بالأساليب البسيطة فقط.

وفيما يخص رواد الزوايا فإن منهم من دعا إلى الجهاد وطرد المستعمر الكافر إعمالا للآيات المحرضة على القتال دفاعا عن الأوطان، ومنهم من دعا إلى الانزواء والتسليم للواقع بدعوى الرضى بالقضاء والقدر.

إن الظروف الآنفة الذكر جعلت حياة الساكنة الاجتماعية والاقتصادية جد عسيرة، تخلوا بفعلها عن مزاولة الفلاحة مصدر رزقهم الأساسي، واكتفوا مضطرين إلى أكل ثمار بعض أشجار الغابة، وعروق بعض النباتات ممزوجة بحفنة أو أكثر من الدقيق المدخر، كما ساعدتهم هذه الظروف على ابتكار مواد غذائية تقيهم خطر التهلكة، كاستخراجهم للزيوت من حب "البري والضرو" وأنواع أخرى من النباتات، وفي عدم وجود الملح استعملوا ماء البحر.

كان هذا بالضبط إبان الحرب الأهلية التي نشبت بين متناقضات المجتمع الإسباني، لأن هذه الحرب الأهلية وضعت حدا للإمدادات (3) التي كانت ترسل للمستعمر من إسبانيا عبر السفن، والتي كان المجاهدون يستولون عليها كلما انتصروا في مواجهة مباشرة، أو بطرق أخرى.

-------

* (1) انظر "بطل جبالة" لابن عزوز حكيم ، ص31-34.

* (2) "تاريخ المغرب" للتهامي الوزاني، ج3، ص151-148.

* (3) الإمدادات كالزيت.. والمواد الغذائية والألبسة والأسلحة.

... يتبع.