adsense

2015/11/23 - 12:03 م



بقلم الدكتور أحمد الفرحان
يتساءل الكثيرون: لماذا يرغب الشباب العربي المسلم ويسعى جاهدا بماله وحياته للهجرة إلى أوروبا، وحين يهاجر ويقيم هناك ويتمتّع بالحقوق يعضّ اليد التي أكرمته وآوته من جوع وخوف؟ ببساطة: يهاجر الشاب المسلم طمعاً في حفظ الحياة الطبيعيّة الغريزيّة وضمان استمراريتها من خلال البحث عن الشغل والغذاء والنِّكاح ومتعة التّسوّق، وعندما يشبع ويرتوي من كلِّ ذلك، يستحثّه جوع المعنى الذي ينخر سذاجة وجوده الغريزي وهويّته المتشظِّيّة للبحث عن المعنى في مجتمع يجهل أصوله في التمدّن والتّحضّر الكوني فكرا وثقافة وسلوكا، وهنا يأتي الخلاص على لسان شيوخ الجنّة والنّار والحلال والحرام، الذين يمنحون لهويّته المتشظِّيّة وسذاجته الجاهلة بعض العزاء، كما يمكِّنونه من مشروعيّة الدِّفاع عنها بوصفها النّجاة من دنيا الفتنة والشّتات، وزاد المعاد الذي يؤنس وحدته واغترابه الثقافي، إنّه زاد يفيض بمعان تجري في عروقه مجرى الدّم منذ نشأته الأولى في ثقافة لا تجيد غير الأدعية والطقوس والأذكار. 
شبابنا لا يهاجر إلى الغرب الأوروبي طمعا في العلم (ماشي القراية) والفن والأدب، شبابنا لا يهاجر ليزور المتاحف الأوربية والمعالم التّاريخيّة واقتناء الكتب واكتشاف أسباب التحضّر، لا يهاجر من أجل الثقافة والحضارة بل يهاجر من أجل القوت والغداء، والمغاربة يقولون في أمثالهم الشعبيّة: الكرش ملِّي كتشبع كتقول الرّاس غنِّي ( بالعربية الفصحى: البطن حين تشبع يهتزّ الرّأس طرباً)، أي لا يلتفت الرّأس إلى الفن إلا بعد شبع، والفنّ هنا هو التّعبير الحميمي عن المعنى الرّمزي للدفء الثّقافي الذي يمنح المرء الإحساس بالهويّة.
وأكيد أنّ هذا المثل يفسِّر ظاهرة تحوّل أبناء الأغنياء والطبقات المتوسِّطة إلى التّطرّف الأصولي الدّموي، حيث يوجد بين صفوفهم كفاءات مهنيّة حاصلة على شواهد عليا، بالمعنى الذي يفيد بالدّارجة المغربية: "قرّاية"، و لكن لا يفيد نفس المعنى المتمدِّن والمتحضِّر للفرد، أي: ليسوا بالمثقّفين، وليسوا بالذوّاقين للعلم والمعرفة والفن والأدب قوام التّحضّر والتّمدّن.
لم أعلِّق على ما حدث في فرنسا، لأنِّي مقتنع أن كل ّ التّعليقات ينبغي أن تنخرط في نفس الخطاطة الاستراتيجيّة لصدام الحضارت... وللأسف رغم الانتقادات القويّة والجذريّة التي تعرّضت لها هذه الأطروحة الاستعماريّة المتهافتة من طرف العديد من المفكرين العالميين المحترمين، فإنّ الكثير من الكتّاب يسقطون في فخاخها، وكأنه بالفعل هناك حضارة غربيّة حداثيّة يغيب عنها كلّ أشكال التّطرّف اليميني العنصري وحضارة عربيّة إسلاميّة تحمل بين جنباتها فقط الأصوليين المتطرِّفين الدّمويّين، في حين نجد أنّ كل من الحضارتين في مأزق التّطرّف الأصولي. ففي الغرب هناك تصاعد اليمين العنصري المتطرِّف الذي لم يأت، فقط، ردّا على المهاجرين، ولكن ظلّ يمثِّل استعداداً قبليّاً في الثّقافة الغربيّة،و انكشفت معالمه الفاضحة مع تفكّك الأنساق العقلانية الحداثيّة، هذا التّفكّك الذي صار يطبع المناخ الثقافي والفكري الغربي الآن تحت ما يسمّى بعصر ما بعد-الحداثة. يكفي أن ننظر مجدّدا إلى التّاريخ القريب جدّاً وليس البعيد الغابر، لنجد أنّ الأنظمة الفاشيّة والنّازيّة العنصريّة والمتطرِّفة لا يفصلنا عنها غير خمسين سنة وبضع سنين؛ إذ، لم يمر بالكاد جيل واحد عنها، وهو نفس عمر الكيان الصهيوني العنصري المتطرِّف الدموي الذي مازال يحظى بالدّعم الدّولي؛ وتصل قوّة الدّعم الدّولي إلى استعمال حق الفيتو ضدّا كل قرار إدانة في حقِّه. بل يبارك الغرب جرائمه بالدّعم العسكري تحت يافطة حق أريد بها الباطل، وهي: الدفاع عن النّفس. ومن مهازل السيّاسة الدّوليّة أن تدعم كياناً عنصريّاً يشكِّل وصمة عار للضّمير الأوروبي والغرب عموماً بالسِّلاح الذكي والمدمِّر لرفع خطر القنابل البدائيّة واليدويّة الصّنع التي لا تصل خطورتها خطورة المتفجِّرات التي يلعب بها الأطفال في الأعياد. هذه القنابل اليدويّة البدائيّة التي لا تشكِّل سوى صرخة المستغيت أو رقصة الدِّيك المذبوح. 
قصارى القول: كلّ من الحضارتين، في عصرنا هذا، تتنكّران للعقل، وصوت العقل فيهما. مع قياس الفارق في النِّسيان؛ بين نسيان حضاري جوهري، ونسيان تاريخي طارئ. ونحن، نصيبنا من الأوّل أوفر، والآخر نصيبه من الثّاني أكثر. 
التقيت في السّنة الماضيّة أستاذة فرنسيّة من جامعة بوردو في إحدى النّدوات الفكريّة الدولية، وتجاذبنا أطراف الحديث حول المدّ الأصولي اليميني المتطرِّف الدّموي في مجتمعاتنا العربيّة والإسلاميّة، وحول صعوبة تدريس قيم الحداثة والتحضّر والتّمدّن الإنساني بين أوساط الشباب، فكان ردّها غريبا: نحن أيضا نعيش نفس الشيء. فقلت لها: كيف؟ أجابت: عندما أدرِّس لطلاّبي الأدب الفرنسي في عصر الأنوار، تجد الكثير من الطّلاّب يستهزءون من قيم الأنوار بدعوى أنّها قيم كاذبة، لأنّها كانت تبشِّر بأّن مصير المثقفين والأدباء والعلماء وذوّاقي قيم الأنوار من السيّاسيِّين والمشرِّعين في الدّولة الحداثيّة سيكون أكثر سعادة من غيرهم لأنّهم أكثر وعيا بالحقوق والعدالة والمساواة والتّسامح وأصول التّمدّن الإنساني. فتجدهم، سيدي، يسألونني: أستاذة، هل أنت سعيدة حقا لأنّك تدرِّسين قيم الأنوار؟ وتبدو على تساؤلاتهم نبرة التّهكّم، لأجد نفسي حقّاً في موضع السخريّة عندما ينطق أحدهم مداعبا صديقه: ربّما سعيدة لأنّها تؤدِّي فواتير الدّيون كلّ شهر. فتردّ عليه أخرى: أو زاهدة عن شراء ملابس موقّعة من محلاّت تجاريّة كبرى. ليُكمل الآخر سلسلة التّهكّمات: لا يا شباب، إنّها تستمتع برومانسيّة شبقيّة حميميّة وهي تقود سيّارة أونو!!!
تَطلّعتْ في عيناي واليأس يرسم ملامح الامتعاض على وجهها قائلة: مسيو هابِّي ( تقصد السيد فرحان) إنّ العالم صار خرابا، لا غرب ولا شرق، ولا هم يحزنون. كلّنا نريد الأنوار.