adsense

2023/03/01 - 10:34 ص

بقلم امال بنعبد الرسول

                             زرع النخاع وتداعياته

ليست الحياة إلا رحلة نحو صنع الذات، تتعاقب الأيام وتتوالى الأحداث، حلوها ومرها. فيتيح لنا الاحتكاك بها اكتشاف مواطن القوة والضعف فينا. والكيس منا من ينتبه إلى ما تحبل به الأحداث التي تواجهنا من دروس وعبر. لذلك، فإني وقد ركبت سفينة البوح بما أحاط بتجربتي مع المرض، لا أسعى إلى استدرار العطف أو تزكية النفس، ولكن هدفي الأول، و" أعز ما يطلب " عندي يبقى هو الطموح إلى زرع الأمل في نفس كل من ابتلي بالسقم والداء.

لقد حرصت على الصدق فيما أسرد من وقائع. وإذا كان يلاحظ على المنظومة الصحية الوطنية الكثير من العجز لأسباب كثيرة منها كون الطلب يفوق العرض بكثير، فإن الحرص على الصدق فيما أعرضه، جعلني لا أقف عند الإشارة إلى الجوانب السلبية في المنظومة الصحية فقط بل تعديت ذلك إلى إبراز الجهود الجمة التي يبذلها العديد من جنود الخفاء من الأطر الصحية.

أعود إلى مستشفى الشيخ خليفة، وأعود إلى الحديث عن ذلك الركام من الأدوية التي كان عليَّ أخذها والتي كان مذاق الكثير منها لا تفوقه مرارة. كنت ملزمة بذلك، أولا لأن جهاز المناعة لديَ أصبح جد ضعيف، ولم أعد أقوى على الحركة أو إتيان أيَ الفعل ولو كان بسيطا. وثانيا، من أجل تأهيل جسدي ليصبح قادرا على الخضوع لزراعة النخاع.

عشت، خلال تلك الأيام التي كانت تمر بطيئة رتيبة محنة كبرى.  فالكل يعلم بأن ما من دواء إلا وتكون لها آثار جانبية. وإذا كنت مجبرة على استهلاك الكثير منها، فلكم أن تتصوروا حرب الآثار الجانبية التي كان جسدي العليل مسرحا لها. أذكر، على سبيل المثال لا الحصر، اضطراب النوم، الآلام التي لم تكن لتُوَقِّرَ أيَّ عضو وأيَّ ركن من ذاتي، فضلا عن التقرحات التي غدت تكسو مساحات من أطرافي. غير أن هناك لحظة مثيرة عشتها في خضم هذه المعاناة: في صبيحة يوم من تلك الأيام، وبعد أن استيقظت من نومي. كالعادة، أخذت مشطا لأصفف شعري، وما أن تحرك المشط في رأسي حتى لاحظت تساقط كثل من شعري. حزنت لذلك كثيرا. لم يخفف عني، حينئذ، سوى منظر طفلة صغيرة، كان يتراء لي من خلف زجاج النافذة، طفلة بدت لي كحمامة سلام، تغرس في النفس الضائقة بذور الأمل، من خلال البسمة التي لا تفارقها، على الرغم من آلامها مع الداء اللعين.

مساء نفس اليوم، أخبرتني الممرضة ليلى بأنني سأخضع لزراعة النخاع صبيحة اليوم الموالي، بعد أن بدأ جهاز المناعة يعيد نشاطه تدريجيا. وهكذا كان، فبعد استيقاظي صباحا، وجدت آلة معلق عليها الكيس الذي يحتوي على الخلايا الجذعية التي سأحقن بها. استبد بنفسي شعور كان يتأرجح بين الفرح والاطمئنان وبين القلق والتوتر: الفرحة لكون جهازي المناعي استعاد نشاطه، وبكون لحظة زرع النخاع حانت. أما الشعور بالقلق، فتعود أسبابه إلى الخوف من العملية ذاتها التي سيخضع لها جسد تعب من كثرة الثقوب التي كانت تقتضيها عمليات أخذ عينات الدم لتحليلها، إضافة إلى تلك الأدوية السائلة التي كان يحقن بها. فضلا عن التخوف من عدم تجاوب بدني.

وبعد أن مُنِحت ُفواكه طُلِبَ مني تناولها، دخلت علينا، فجأة البروفسور بولخماس، فدعتني إلى التسلح بالثقة في الله وطلب سنده ورحمته، كما نصحتني بالاستماع لمقاطع لموسيقية، من شأنها أن تبث شيئا من السكينة في نفسي. تمت العملية بنجاح، كما قيل لي. لكن ما كان يقض مضجعي هو تلك الآلام الفظيعة التي أمست تفتك بيَّ، عقب عملية الزراعة، إلى درجة أني صرخت في وجوه الممرضة شاكية تضاعف شدة آلامي. الأساتذة الأطباء أنفسهم وقفوا مندهشين عاجزين عن تفسير ذلك.

استمرت هذه الالام أياما. وكان لابد ان أخضع للحقن بالصفائح الدموية. وهنا أجد نفسي ومدفوعة إلى الإعراب عن شكري وامتناني لسيدي محمد، صهر عمي الذي تبرع لي بالصفائح. لن أنسى أبدا صنيعه هذا وما أحاطني به من كرم الضيافة حفظه ربي من كل سوء. كما لن أنسى أيضا فضل زوجته، ابنة عمي شيماء، الابنة البارة التي لم تبخل عليَّ بأي مساعدة. فضلا عن عمي إدريس الطيب والكريم الذي كنت أراه في مقام الأب الذي عوضني ربي به عن فقدان والدي، منذ أن كنت طفلة.

بقيت على هذا الحال أتناول الأدوية وأخضع للمراقبة المستمرة. وفي أحد المرات، أصبت بانتكاسة جراء نقل الدم.  انتابتني قشعريرة شديدة وهبوط في ضغط الدم. ولولا مشيئة الله وتدخل الفرق الطبية على وجه السرعة، لكنت في عداد الموتى.                  

يتبع ....