adsense

2023/01/04 - 8:22 م

بقلم الأستاذة امال بنعبدالرسول

يقول الدكتور محمد عابد الجابري في سيرته الذاتية " حفريات في الذاكرة ": " وبما أن وقائع الحياة الشخصية وكذا الحياة الاجتماعية العامة تتحول بمجرد وقوعها إلى ذكريات.... تتراكم مع مرور الزمن وتتدافع ويغطي بعضها بعضا أو يخنقه أو يمحوه أو يلغيه، فإن ما يبقى صامدا...هو أشبه بالقطع الأثرية التي تمكنت من مقاومة عوامل التحلل والاندثار".

وهكذا، وأنا أركب سفينة البوح والكشف عما ترسب في ذاكرتي من أحداث، أحاطت بحياتي، منذ أن صرت أمتلك وعيا بذاتي، لا أقصد سوى أن أتقاسم مع الغير فصول معاناتي مع الداء الذي ألم بي، على حين غرة، وكاد أن يذهب بتوازني البدني والنفسي. لكن قبل الحديث عن المرض وتداعياته، لنبدأ من البداية.

شاء الله سبحانه أن أترعرع في كنف أسرة، مكونة من والدين وأربعة اخوة. عشت وإياهم حياة عادية. كنت سعيدة بمرحلة الطفولة وما تتميز به من براءة وشقاوة. كنت، كأقراني، أمرح هنا والعب هناك. كان حب الآباء يغمرنا، بين أحضانهم، كنت أشعر بالأمن والسعادة. 

أعترف انني كنت الفتاة المدللة من طرف والدي، كان لا يبخل عني بشيء، كان يحرص على تحقيق رغباتي دون كلل أو ملل. لم أكن أخشى شيئا. كنت اشعر ان ظهري مسنود. كنت أخال هذه النعمة دائمة، سترافقني مدى الحياة. كنت أظن أن وجود أبي إلى جانبي، سيغنيني عن كل شيء، وأن طلباتي وأحلامي ستتحقق وهو معي، إلى جانبي. كان سعيدا وهو يراني أكبر امام ناظريه، وأنا أتسلق سلم المسار الدراسي بنجاح.

كانت أمنيتي، وأنا طفلة هي أغدو محامية، أن أقف، مرتدية البدلة السوداء للترافع عن الناس. سبحان الله! منذ صغري، كنت أتحسس في نفسي مشاعر وبواعث لنصرة المظلوم والدفاع عن المغبون في حقه. لم أكن أبدا أرتاح لأساليب الغش والتزييف والنفاق والمراوغة، لم أكن أدرك حقيقة ما يسكن دواخلي من ميول للخير والخصال الطيبة، حتى كبرت وأدركت مستوى من النضج. طبعا، أنا لا أزكي نفسي، حاشا لله.

 لكن، ربما كانت هذه الخصال الطيبة، والمشاعر الإنسانية الصادقة الرائعة، هي من عوامل انكساراتي على مستوى العلاقات الإنسانية. كنت، مثلا، لا أنظر إلى الغير، القريب والبعيد، على أنهم بشر، لهم عثراتهم واخطاؤهم، بل كنت انظر إلى الناس بمنظار القداسة والطهر. وقد يكون ذلك، بطبيعة الحال، راجع إلى نوعية التربية التي تلقينها والى طبيعة التنشئة الاجتماعية التي اكتسبها معظم جيلي، والتي تفتقر، بنسب متفاوتة، إلى التوجيه الصحيح والإرشاد السليم.

هنا أنا لا أحمل المسؤولية لوالديَّ، بل إني أعتبر ذلك نتاج ظروف وأحكام ومعتقدات وقناعات وسلوكيات، تتوارث جيل عن جيل. وينظر إلى هذه الموروثات بأنها تمثل الحقيقة وتمثل الدين، مع تغييب كل حس نقدي، من شأنه أن يقود إلى تطهير الحقيقة من الأوهام والدين مما علق به من عادات خرافية وبدع فاسدة.

ويبقى من تداعيات هذه التربية الناقصة أن ظهر جيل مهزوز، أضاع البوصلة، وفقد الثقة في ذاته، يفتقر إلى مهارات التواصل والتدبير والقدرة على مواجهة الصعاب، ناهيك عن الخصاص المهول في الإحساس بالمسؤولية ومراجعة النفس وتقويم أخطائها.

بين هذه المنعرجات، سلكت طريقي حالمة، رغم ذلك، بالغد الأفضل والمستقبل المشرق. كنت أستمد وقود الاستمرار، من يقيني في قدرة الله عز وجل. خير ما أعتز به دائما وافتخر، هو هذا القلب الذي أملك، القلب الذي ضخ الله عز وجل في نبضاته حبه والتعلق بدينه والإيمان بجميع انبيائه ورسله.

كنت، وما زلت أستشعر معية الله سبحانه، لم أكن على وعي بكل ذلك إلا بعد أن تعرضت للمرض. أدركت واستشعرت حلاوة رحمته وكرمه، ولمست سعة عونه ومدده.

فما أجمل الإنسان! ما أسعده حين يمتلك اليقين التام والصادق بأنه مادام حي، فإنه سيظل في معية الله جلت قدرته.  يحس بالأمان في حضرة من لا يخدع ولا يغش، يكون في حمى الله الرحمان الرحيم. تتأرجح حياة الإنسان بين النور والعتمة، بين السعادة والشقاء، بين القوة والسلامة وبين الضعف والمرض. وسعيد من ظل، حتى في أشد اللحظات ضعفا ومعاناة مع الآلام، صبورا، مسلحا باليقين بأن الله معه.

وأنا أسير بين دروب الحياة، أصابني الداء، واعتل جسدي واهتز كياني، ومع ذلك، صبرت واحتفظت دوما بالأمل، كل الأمل أن الشافي هو الله. وأن القدر سيقودني إلى إدراك أسباب تجاوز المرض أن شاء الله.

تجربتي مع المرض، تبقى تجربة إنسانية بامتياز. اخترت أن أدونها، أن أسرد بعض فصولها. قد تفيد من قُدِّرَ عليه الابتلاء بمرض، فيستلهم منها القدرة على مواجهة الداء.

في المقالة القادمة، سأشرع في سرد فصول معركتي مع أشرس الأمراض، المرض الذي سكن دواخلي. وارجو الله لقارئ هذه السطور السلامة والعافية والسعادة، وأن يحفظنا جميعا برحمته الواسعة.

أختم مقالة اليوم باستحضار قول لمفكر فرنسي مشهور: " لا شيء يجعلنا أقوياء سوى ألم عظيم.