adsense

2015/10/29 - 4:07 م

         

       
 بقلم جمال أبناس
يجسد واقع التربية في المنظومة العربية مشهدا مؤسفا يتبين من خلاله الفشل الذريع الذي تتخبط فيه المنظومة العربية، مما يحول دون بلوغ النتائج والغايات المأمولة، على اعتبار أن طبيعة المناهج المعتمدة في جميع مستويات التربية ليست سوى ترسانة تقليدية منغلقة على ذاتها ولا تسهم في بناء تصور فعال في المجال التربوي.
يشهد واقع الحال إذن على تخلف واضح في أحد أهم المجالات الحيوية التي ينبغي إيلائها الأهمية القصوى، ويعود هذا التأزم والتخلف إلى كون الثقافة العربية لا زالت سجينة نظام تقليدي فيما يخص كيفية تأطيرها للناشئة، الشيء الذي يؤذي إلى تكريس نتائج هي بالأساس عكس الغايات المراد تحقيقها.
يتعلق الأمر بمجموعة من المحددات التي تسم طبيعة هذا النظام التربوي، محددات بالضرورة علة المرض وتفشي الإخفاق وتكريس الظواهر ذات الطابع السلبي في المجتمع ( العنف، الانحراف، الهدر المدرسي...).
إن محاولة تشخيص واقع المنظومة التربوية في جميع أبعادها يفرض علينا طرح تساؤلات نسقية تمس كل الفاعلين والمكونات التي تشارك في البناء التربوي، وذلك في أفق أن تكون المقاربة التشخيصية للواقع التربوي، مقاربة موضوعية تتوفر فيها الشروط الدنيا لتأسيس موقف موضوعي إزاء ازمة النظام التربوي، فإذا كانت الأزمة مرتبطة بالتصور التقليدي، فما هي تجليات هذا التصور؟ بمعنى آخر، هل العقم الذي يشهده الجسم التربوي في المجتمع العربي له علاقة بالنظم والمناهج التقليدية المعتمدة؟
تبين أغلب الدراسات التي استهدفت هذا الموضوع بان الأمر يتعلق بسببين رئيسيين: يكمن السبب الأول في ازمة مرتبطة بالتصور، بينما السبب الثاني يتجسد في غياب إرادة سياسية حقيقية لتغيير النظام التربوي.
حسبنا في هذا المقال التطرق للسبب الأول، حيث يمكن التعبير عنه وحصره في العناصر التالية:
أولا: إخفاق الأسرة. 
ثانيا: أزمة المدرسة.
ثالثا: ثقافة المجتمع.
أولا: إخفاق الأسرة:
تنطلق الاسرة العربية في منظورها من محدد أساسي بارز يتجسد في السلطة والقهر كدعامة أساسية لبناء شخصية كاملة ومثالية قادرة على التفاعل الإيجابي في المجتمع.
تكمن خطورة هذا المبدأ في أن الأسرة العربية لا تعتقد في نجاعة طريقة ما مغايرة، بقدر ما تعتقد في فعالية ونجاعة الإكراه والقمع والقهر كمبادئ أساسية للتقويم والتربية، إن هذا النموذج التربوي السلطوي لا يسهم إلا في ترسيخ قناعات وطبائع لدى الناشئة تكون بمثابة المحفز السيكولوجي للارتماء في احضان الهاوية والانجراف والتمرد والفشل المدرسي فالقهر والإكراه عدوان لذودين للتربية، فمتى حضرالاثنان سجلت النتائج الكارثية التي لا تحمد عقباها.
بهذا المعنى نصبح امام ناشئة مقهورة وجدانيا، والخطورة تكمن في أن الأسرة مغتربة كليا عن قهرها رغم أنها السبب في ذلك، مما يخلق مسافة بين الأسرة والأبناء، فكيف ستفهم قضاياهم وانشغالاتهم وهي ترفض اعتبارها بالأساس محاولة قمعها عن غير وعي؟. 
منهج الأسرة العربية عقيم، ولا حيلة له في فك مشاكل أبناءها، فهو لا يؤمن بأن عصر الأبناء ليس هو عصر الأسلاف، مما يوجب على الأسرة صرف النظر عن العنف والقهر والقمع، فكل هذه المبادئ لن تنتج إلا جيلا عنيفا ومغبونا. 
ثانيا: أزمة المدرسة:
في المدرسة وضعية التربية تزداد تعقيدا، فمن حيث النظام والمنهج تعيش المدرسة أزمة بنيوية، وتزداد نسبة الأزمة في كون أن الموضوع الذي تحاول توجيهه وتأطيره ( الطفل) حامل لسخط وجداني عاطفي اتجاه المدرسة، ذلك أنه يعلم جيدا بأنها امتداد لمجال السلط والقهر، اي نطاق لتغريب كينونته من جديد، لذلك لا تتوانى الناشئة في ترجمة ذلك السخط إلى عدة ردود أفعال مباشرة وغير مباشرة، وكلها ذات نتائج سلبية عليه وعلى مفهوم المدرسة، فهناك من يترجمه في رغبته بترك عالم المدرسة، في حين هناك من يترجمه ويفرغه في الانحراف، بينما نجد من يتقبلها على مضض لتصبح علاقته بها إما علاقة روتينية استجابة و خضوعا لسلطة الأسرة او علاقة مصلحة ومنفعة، مما يؤدي إلى تغييب الدور التربوي للمدرسة في بناء شخصية مجتمعية قبل بناء التلميذ الناجح والمجتهد. 
تعدو المدرسة بهذا الواقع المؤلم موضوعا غير مرغوب فيه وتكلفة لا تطاق، فعوض أن تنهض بدور يخفف على الطفل ما يعانيه من ضيق الأسرة تصبح مرحلة تكميلية لسلطوية الأسرة، فكيف يمكن لهذا الطفل أن يفهم الأمور على النحو الذي ينبغي أن تفهم عليه؟ فالمدير يمارس السلطة، والأستاذ ومع هما التنظيمات التربوية بكل مستوياتها تتداخل لترسيخ هذا المبدأ بدرجات مختلفة، كل هذه الفاعليات تتضافر في مجهوداتها عن وعي أو عن غير وعي لقمع الطفل في رغباته وانفعالاته، في حين أن المطلوب هو فسح المجال لهذه الرغبات سواء أكانت سلبية أو إيجابية لتظهر وتنجلي كيما يتم تصحيح اعوجاجها وتقويمها بشكل مرن عير طرق ومناهج اكثر ملائمة لنفسيته ووضعيته كمراهق. 
ثالثا: ثقافة المجتمع:
و نحننتحدث عن المجتمع نطرح بالتوازي سؤالا يهم أسس ومقومات تصور المجتمع العربي لفعل التربية، بمعنى آخر كيف يفكر المجتمع العربي؟ هلتفكيره امتداد للثقافة السائدة في الأسرة والمدرسة، وبالتالي تتويجا وتعميقا لها أم أن الأمر على خلاف ذلك؟
إن الجواب على هذا السؤال سيكون بالإيجاب من طبيعة الحال، ذلك أنه إذا كانت مؤسسة الأسرة مؤسستان أوليتان منهما يبدأ فعل التربية، فإن المجتمع بالضرورة هو تفعيل لهذه المضامين والتصورات من جهة، ومجالا أيضا لتعميق النتائج الكارثية التي خلفتها الأسرة والمدرسة عبر مفهومه للفعل التربوي، فهو يأخذ منهما في أفق أن يكون قطبا يرد مما يأخذه فإذا منطق المدرسة والاسرة يقوم على الإكراه والإخضاع، فإن المجتمع لن يتكلم لغة غير هذه اللغة، بل سيسهم  في توطيد هذا المنطق، لذلك لا غرابة أن الاسرة والمدرسة معا يشتكيان من ثقافة المجتمع بشكل مفرط، علما أنهما يساهمان في تأسيس هذه الثقافة التي لا تنشر في المجتمع إلا النمط الفكري الانهزاميو الانحرافي المتمرد على الحياة الإيجابية الفاعلة. 
بهذا المعنى يمكن التأكيد على أن المجتمع ذو ثقافة متأزمة فعلاقته التفاعلية بين المؤسسات والمكونات التي تكونه تبين ذلك على شكل معطيات واقعية تتمظهر في جميع أنماط الحياة الاجتماعية سواء داخل الأسرة او المدرسة أو على مستوى بنية العلاقات الاجتماعية بين الأفراد فيما بينهم.
أزمة المجتمع وإخفاقاته في بناء دور تنشيئي فعال راجع إلى كون العلاقة بين الأقطاب التي تؤسسه تؤدي وظيفتها في منحى يكرس لنتائج غير مرغوب فيها، بل أن الأمر يزداد سوءا عندما تحاول هذه الفاعليات إقامة جسر تواصلي فيما بينها حيث تقاس قيمة الأزمة والإخفاق في هذا الفعل التواصلي، فكل مكون وقطب  يرى في الأخر بأنه هو المسؤول عن الفشل الذي نعاني منه في علاقتنا بالفعل التربوي، فالمجتمع يلقي المسؤولية على عاتق المدرسة، بينما هذه الأخيرة تتملص من المسؤولية بإلقاءها على الأسرة وعلى ثقافة المجتمع، في حين أن الأمر لا يعدو وبصورة بسيطة سوى مشاركتهم وتداخلهم في صناعة الأزمة التربوية، فالعلاقة هنا تكاملية تداخلية ولا يمكن الفصل أبدا في أي المكونات التي تتحمل المسؤولية وحدها. 
بهذا يتضح أن المجتمع يعبر في آن واحد عن النمط التربوي الأسري والمدرسي، فإذا كان هذا النط فاشلا وقاهرا لا يفسح المجال لما يمكن تسميته ~بالفرصة~ والمناسبة~ للتعبير ومحاولة تأسيس الفهم بصدد الموضوعات والقضايا التي تهم الناشئة، بحيثيكون الفهم ذا أساس عقلاني يمكن الأطفال باعتبارهم أفرادا من إبداء آراءهم والتعبير عنها بكل أريحية، فإنه لا محالة من أن المجتمع سيكون أيضا مكونا لا يسمح بالانخراط الفعال والتشاركي لأفراده. 
خلاصة القول، يعد البحث في إخفاقات التربية أوتشخيص مقوماتها التي تسهم في تعميق مزالقها أمرا صعبا ومعقدا، نظرا لطبيعة الموضوع من جهة، ولقيمته ومكانته داخل نظام المجتمع، تحقيق الفهم إذن مطلب صعب لكن ليس مستحيلا، وما يمكن التأكيد عليه كنتيجة من نتائج هذه المقاربة التشخيصية هي أن أزمة الأسرة معناها أزمة المدرسة ، وإخفاق هذه الأخيرة مؤداه سقوط المجتمع في دواليب القهر والتخلف والتراجع والأزمة في جميع مستوياتها، بصيغة أخرى إن غياب مفهوم الطفل معناه غياب لمفهوم التلميذ، وغياب مفهوم التلميذ معناه غياب الراشد وغياب هذا الأخير مفاده غياب الإطار، وغياب هذا الأخير معناه غياب مفهوم المستقبل، وإن غاب المستقبل في مجتمع ما غابت معه أشياء ثمينة بدونها لا يمكنه أن يرى النور بقدر ما سيشتد عوده في عالم الظلمات والانتكاسة.