بأحد مساجد منطقة عين الشكاك القريبة
من مدينة فاس، وبعد انقضاء صلاة الجمعة، نخرج جماعات من الباب المفضي إلى الشارع،
بجانبي رجل قد بلغ من العمر عتيا، يكاد لا يستقيم جسده من ثقل السنين.
إلى غاية الآن تبدو الأمور عادية ولا
غرابة فيها، حتى أدركت أني أمام بطل من أبطال هذا الوطن، قد خلع رداء الشهرة
والنجومية، وارتدى مجبرا لباس النسيان ونكران الجميل.
في دردشة قصيرة يعود صاحبنا بذكرياته
إلى الوراء، إلى لحظات مجد في عالم ألعاب القوى المغربية، التى منحته اسما
شهيرا فيما مضى، كأحد أفراد الجيل الذهبي الذي صنع في الخمسينات والستينيات مجد
المغرب في ألعاب القوى.
يتذكر بطلنا "بكيربنعيسى"
بحسرة، وقد قارب عمره التسعين سنة -أطال الله عمره- ذلك المسار البطولي الذي
بصم عليه في مختلف السباقات التي خاضها، كل مضمار كان شاهدا على بطولة، وعلى مجد،
ويأسف على النسيان الذي طاله هو وأغلب الأسماء التي كان لها الفضل في رسم البسمة
على شفاه المغاربة في وقت كانت فرنسا تسلب منا كل الأبطال.
وبعد أن حصل المغرب على استقلاله سنة
1956، وانضمامه للجنة الأولمبية الدولية في 25 ماي 1959، كان المنقبون أعضاء
اللجنة الأولمبية، يلملمون شتات الجواهر المغربية في مختلف الرياضات، من أجل تمثيل
المغرب في الملتقيات الدولية، كان بنعيسى بكير لامعا في سماء ألعاب القوى، وكان
الأمل معقودا على أن يتخلى عن جنسيته الفرنسية، من أجل المغرب وفعلا كان ذاك سنة
1959، وجاءت أول ميدالية دولية كبرى للملكة في نفس العام، عندما فاز بالماراثون في
ألعاب البحر الأبيض المتوسط ببيروت.
هذا غيض من فيض، في مسار أحد كبار
العدائين المغاربة، الذين أهدوا بلدهم المعدن النفيس، في وقت عزت فيه الإنجازات
على الرياضة المغربية، إلا من خلال هؤلاء الرجال الذين كانوا يعطون الكثير ولا
يتلقون سوى القليل، ومع ذلك طالهم النسيان والتهميش، فهل من أضواء تسلط على هؤلاء
حتى يعرف الجيل الحالي أن الأبطال يولدون من رحم المعاناة؟...