adsense

2023/12/10 - 7:49 م

 متابعة: محمد الزوهري

أقام خبراء وباحثون شاركوا في ندوة علمية بفاس الدليل على دور اللغة العربية في تسريع التنمية وضرورة جعلها لغة أساسية للتعليم، وأداة مثلى للتنمية بالمغرب، مؤكدين أن تحقيق ذلك لن يتأتى إلا بإرادة سياسية حقيقية، تقوم على مواصلة مشروع التعريب ليشمل التعليم العالي، واعتماد العربية في تدبير المرفق العام، فضلا عن تكثيف الأبحاث والدراسات العلمية الرامية للنهوض باللغة العربية، وجعلها مواكبة للتحولات التكنولوجية والرقمية.

   وأوضح المتدخلون في هذه اللقاء الذي نظمته "الجمعية المغربية لخدمة اللغة العربية" بفاس يوم 7 دجنبر الجاري، تحت شعار " اللغة الوطنية إكسير التنمية"، أن اللغة العربية تزخر بإمكانات هائلة لتصبح الأداة الأساسية لتدريس كل العلوم بدون مركب نقص، والوسيلة المناسبة للتواصل والبحث والنشر وتدبير الشأن العام؛ بالنظر لثراء معجمها، ومرونتها، ومكانتها العالمية المرموقة.

    الأولوية للغة الأم

      أبرز رشيد اليزمي، الخبير الدولي في علوم الكمياء، أنه ليس هناك أي تناقض بين اللغة العربية والابتكار، لكن ما ينبغي القيام به هو تهييئ الظروف للجيل الصاعد كي يتمكن من استعمال العربية بكل ما تزخر به من إمكانات معجمية هائلة، وتاريخ حافل من الإنجازات العلمية الدقيقة على يد علماء كان لهم السبق في تطور البشرية خلال القرون الوسطى، ولازالت أفضالهم قائمة لحد الآن، من أمثال ابن سينا في الطب والخوارزمي في الرياضيات، وابن حيان في الكمياء والفلك، والرازي والكندي وابن رشد وابن بطوطة وابن فرناس وغيرهم كثير.

       ودعا الدكتور اليزمي الشباب إلى تعلم اللغات، باعتبارها السبيل الأمثل لاكتساب المعارف والخبرات، وأكد أنه "علينا ألا نخجل من التعلم باللغة العربية وإتقانها طالما أنها لغة العصر، وإشعاعها الدولي في تزايد، لذلك تتحمل الدولة والهيئات المدنية مسؤولية رعايتها وتطويرها وتكييفها مع مجالات الابتكار، وفي الآن نفسه ينبغي الانفتاح على اللغات الأخرى وتعلمها للتواصل مع الآخرين وتطوير مجالات البحث والابتكار". مؤكدا أن هناك مجهودات تبذل في المغرب للنهوض بمستوى اللغة العربية في التدريس والإدارة، بالرغم من أن تغلغل اللغة الفرنسية لازال مستمرا في دواليب الحياة العامة... إلا أن المشكل يطرح عندما تصبح اللغة عائقا في وجه البعض للتعلم والتواصل.

      في الاتجاه نفسه، أكد الدكتور أحمد عزيز بوصفيحة، رئيس قسم الأطفال بمستشفى ابن رشد بالدار البيضاء، أن التجارب العالمية في مجال التعليم والبحث أكدت أن أفضل لغة للاكتساب والمعرفة هي لغة الأم الحاملة للقيم الثقافية والسلوكية؛ بدليل أن كل الدول المتطورة (ألمانيا – اليابان - تركيا – ماليزيا – فلندا...) تدرس الطب وباقي العلوم بلغتها الأم. وأشار الدكتور بوصفيحة أنه من خلال تجربته المهنية في قطاع الطب، تكوينا وممارسة، وبناء على دراسات علمية دقيقة، تبين أن أكثر من ثلثي عدد طلبة كلية الطب (67 في المائة) يجدون صعوبات في الفهم والتفاعل مع محتويات التكوين باللغة الفرنسية، مما يجعل نسبة مهمة منهم تفضل التدريس والتكوين باللغة العربية.

     وثمَّن المتدخل، في مداخلته بعنوان "الأسس العلمية لتدريس الطب بالعربية في البلاد الغالية" الجهود المبذولة لترجمة المعجم الطبي إلى العربية، وتوسيع مجالات البحث والنشر بالعربية وطنيا ودوليا، ما يفند جملة من المغالطات التي تدعي استحالة تدريس الطب بلغة الضاد، ومحدودية المصطلحات والمراجع الطبية باللغة العربية، خاصة وأن نسبة حضور المصطلح الطبي لا تتجاوز 5 % معتبرا أن بلادنا لم تتخلص بعد من عقدة اللغة الفرنسية في الجامعة والإدارة، بالرغم من مجهودات التعريب التي حيل بينها وبين تحقيق أهدافها بسبب الوقوف بها عند مرحلة الثانوي.  وقال: "من العار والظلم أن تصبح اللغة سببا في تعطيل الحوار بين الطبيب والمريض، وفي انتفاء تكافؤ فرص الشغل، باعتبار أن الذين لا يجيدون اللغة الفرنسية مواطنون من الدرجة الثانية".

   العربية: لغة الحضارة والعلم

   من جهة أخرى، أوضح الدكتور عبد الله بوصحابة من كلية العلوم بفاس في مداخلة حول "اللغة العربية في خدمة العولمة والتقنية"، أن لغة الضاد التي تعكس هويتنا وحضارتنا، في صحة وعافية، وبفضلها لسنا في موقف ضعف؛ بحكم أنها تحتل حاليا رتبا متقدمة جدا من حيث انتشارها، وعدد الناطقين بها في العالم، واتساع مجال تداولها عبر الإنترنيت (الشابكة)، "أما اتهامها بأنها سبب فشل منظومتنا التعليمة، وعائق في اكتساب المعارف، فهو كلام باطل ومغرض، بحكم أن لغتنا غنية من حيث معجمها (12.3 مليون كلمة)، كما أنها سباقة لاستعمال مفاهيم علمية قبل قرون عديدة، فضلا عن انتشارها العالمي الواسع في مجال التقنية والمعرفة.   

      وأكد المتدخل في آخر عرضه أن "سبب تدني مستوى التعليم ببلادنا يعود في جانب منه إلى فرض التدريس باللغة الفرنسية في الكثير من التخصصات"، داعيا إلى دمقرطة التعليم من خلال منح الحرية للطلبة لاختيار اللغة الموظفة في التدريس والتكوين بالتعليم العالي.

       في المنحى نفسه، ذهب الدكتور نور الدين الرايس من كلية العلوم بفاس، إلى أن اللغة الوطنية والذكاء الاصطناعي أساس بناء مغرب المستقبل، ولربح هذا الرهان، لابد في رأيه "من رد الاعتبار للغة العربية، وجعلها لغة للتكوين والانفتاح على التكنولوجيا الحديثة، وأيضا لغة التعامل وتدبير الشأن العام. وقد تبين من خلال الدراسات والتجارب العلمية أن من أبرز شروط طلب العلم والتفوق هو التمكن من اللغة المستعملة فهما وتطبيقا، وأن الكثير من الطاقات الواعدة تتخلى عن التكوين والعلم بسبب عائق اللغة"، لذلك من الضروري – يضيف الدكتور الرايس – العمل على مواجهة تحديات العالم الرقمي الحالي؛ من خلال جعل الذكاء الاصطناعي في خدمة اللغة العربية على مستوى الترجمة، وتشجيع التعليم عن بعد، في أفق التحولات الكبرى التي سياتي بها الذكاء الاصطناعي.

  الحاجة إلى اللغة الوطنية للتكوين والتنمية

      أكد الدكتور محمد البياز من المركز الاستشفائي الجامعي الحسن الثاني بفاس، في مداخلته على وجوب "التأصيل والتجديد في خدمة اللغة العربية للعلوم الطبية، من خلال تأصيل ما هو موجود، وتوليد ما هو مفقود في المعجم الطبي باللغة العربية"، ولن يتحقق ذلك، برأيه، إلا بمراعاة حاجيات المستعمل (الطالب والباحث)، المتمثلة أساسا في المفهومية، والبساطة، والمرونة، والتداول.

   وأبرز الدكتور البياز أنه حان الوقت للدفاع عن اللغة العربية لاستعمالها في تدريس العلوم، ومنها علوم الطب والصيدلة، بعدما تبين أن التدريس باللغة الوطنية ضرورة حتمية لتجويد التكوين والرفع من مستوى الخدمات ذات الصلة، متسائلا: "كيف أمكن لدول صغيرة أن تدرس بلغتها الوطنية، بينما نحن لازلنا نعتبر لغة الضاد غير ملائمة لتدريس العلوم؟"، داعيا في الآن نفسه إلى تفادي إجبار الطلبة والباحثين على التكوين والبحث باللغة الفرنسية، أو استعمال ما يسمى ب "العرنسية"، بينما "المطلوب هو الجرأة في تعريب العلوم، مع توخي شرطي التدرج والمرونة في هذا المسعى".

وتحت عنوان: "اللغة العربية لغة العلوم والتقنية"

أكد د.عبد المجيب بنكيران من كلية العلوم بفاس أن التدريس باللغة الوطنية أولوية ضرورية في مواجهة الاستلاب وهجمة الإشهار، موضحا أن العربية لغة مطواع، وأن القرآن أحدث ثورة غير مسبوقة، وحث على إعمال الفكر واكتشاف أسرار الكون، وعدَّدَ أسماء علماء أفذاذ من المشرق والمغرب ألَّفوا وأبدعوا في الرياضيات، منهم الخوارزمي الذي تنسب إليه الخوارزميات، وأبو بكر الحصار، أوّل من كتب الكسور في الرياضيات، وأبو الحسن القصادي أول من استعمل الترميز في الرياضيات، ودعا المتدخل إلى ضرورة رفع مستوى التوعية وخدمة اللغة العربية في مواجهة حملات التشكيك، وتوسيع عمليات الترجمة، وإحداث مجلة لنشر الأبحاث والتعريف بالتراث المغربي في خدمة الطب والرياضيات.

      كلمة الافتتاح التي ألقاها مسير الندوة الأستاذ عبد الحي الرايس، الكاتب العام للجمعية المغربة لخدمة اللغة العربية، وأحد المنافحين عن لغة الضاد، أوضحت أنه لو تحررت الإرادة وتحقق التوجه نحو الالتزام بالاختيارات الأربعة لمغربة أطر التعليم وتعريبه وتعميمه وتوحيده، التي تم إقرارها في فجر الاستقلال، "لكنا في طليعة البلدان الناهضة المتقدمة، غير أنه لم يتحقق من الاختيارات الأربعة إلا المغربة، وظل الأمر منذ ذلك الحين موضوع تجاذبات بين سياسة الدولة التي نزعت باستمرار نحو تثبيت الازدواجية، وفرْنسة المواد العلمية وغيرها، وبين ممثلي موقف القوى الوطنية".

      وحتى حين الأخذ بمبدأ التعريب في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، تضيف كلمة الأستاذ الرايس، "تم الوقوف به عند حدود الثانوي دون أن يشمل التعليم العالي، مما أحدث الفجوة، وحال دون استكمال تكوين الأطر على نحو سليم، لِتُعَلَّقَ تبِعاتُ فشل التجربة فيما بعد على مِشجب التعريب"، وهو ما تؤكده شهادات متخصصين في مجال التكوين التي تشير إلى فشل عملية تعريب المواد العلمية في الجامعة، مما أثر سلبا على جودة التدريس والتكوين في الشعب العلمية، وساهم في تدني منظومة التعليم ببلادنا.

      والحال أن "تجارب الفَتْنمة والعَبْرنة، واعتماد الصينية واليابانية والتركية وغيرِها في أمصارها، تقوم شاهداً لا يُمارَى، ودليلا لا يُدحَض على أن اعتماد اللغة الوطنية أساساً للتعليم هو مصدر تأكيد الهُوية وتوحيد الأمة، والسبيل إلى امتلاك العلوم والإسهامِ في تطويرها، وبالتالي إلى تسريع وتيرة التنمية".

     وحذر الأستاذ الرايس من أن خارطة طريق تعليمنا (2022 -2026)  ستنفَذ، و الملايير التي تُصرف عليه ستُهدر، "وما لم تتمَّ إعادة النظر في لغة التدريس، فلن تجني البلاد بعد الإمعان في تنفيذ الخطة غير الندم، والتموْقُع في مسار التنمية عند أدنى مراتب السُّلَّم، خاصة وأننا نعيش عصر الثورة الرقمية، والتحول الكبير الذي جاء به الذكاء الاصطناعي بما يُبشر به من توفير المعطيات، ويُتيحه من ترجمة فورية لكل اللغات، ويُحْدثه من تحوُّل في أنماط العيش والإدارة والتعليم والعمل، ومن نَقلة نوعية في أساليب ممارسة المهن، مما يقوم شاهداً على أن امتلاكَه والتمرُّسَ به إنما يتأتى عن طريق اللغة الوطنية أوَّلاً، ليأتي بعدها الانفتاح على باقي اللغات".