adsense

/www.alqalamlhor.com

2025/05/09 - 7:09 م

بقلم الأستاذ حميد طولست

المدون سعيد بنجبلي ومحنة الاختلاف نمودجا.

رحل الكاتب والناشط المغربي سعيد بنجبلي عن الحياة بعد رحلة فكرية وإنسانية استمرت 46 سنة، كانت شاهدة على تحوّلاته، وتقلّباته، وجرأته في كسر التابوهات. لم يكن سعيد مجرد مدوّن، بل كان ظاهرة فكرية أربكت "القطيع" في كل مرّة عبّر فيها عن موقف لا يُشبههم، أو فكّر خارج أسوارهم العقائدية المحكمة. فمنذ انفجار ما سُمّي بـ"الربيع العربي"، اختار سعيد أن يكون مختلفًا: لا ثائرًا تابعًا، ولا مؤمنًا مقلدًا، بل عقلًا حرًا يطرح الأسئلة بدل التسليم، ويشكك بدل أن يُقدّس.

غير أن هذا الاختلاف لم يكن مقبولًا لدى كثير من "المتأسلمين"، الذين لا يطيقون من يشذ عن جماعتهم، أو يتساءل عن مسلّماتهم. فـ"حراس المعبد" ـ كما وصفهم بعض أصدقائه ـ جعلوا من حياة سعيد ساحة تنمر، وقذف، وتشكيك في النيات والعقائد. فكل من لا يُصفق لدogma، يُرمى بالزندقة. وكل من لا يؤمن بجنّتهم، يلعنونه علنًا، ظانين أنهم خالدون، وأنهم يملكون مفاتيح السماء.

في تدوينات رحيله، ظهر جليًّا حجم الرفض العميق للاختلاف في ثقافتنا العربية، حيث سارع بعضهم إلى إطلاق ضحكات "هاهاها" شماتةً في موته، فقط لأنه لم يكن يعبد ما يعبدون، أو لم يُفسّر الدين كما يفسّرونه. لكن هذه التعليقات، بدل أن تُسيء للراحل، أساءت لمجتمعات أُصيبت بالتكلّس، ولم تعُد قادرة على استيعاب التنوع داخلها.

علّق أحد المغاربة المقيمين في لندن قائلًا: "كان إنسانًا شجاعًا عبّر عن رأيه في الخرافة دون خوف، رغم تنمّر حراس المعبد". فيما كتب آخر: "نحن العرب نعشق قطيعنا بجنون، ومن يشرد عن القطيع نتّهمه بالكفر دون حتى محاولة الفهم".

إن ما حدث مع سعيد بنجبلي ليس حالة معزولة، بل هو مرآة لمحنة العقول الحرة في مجتمعات تُقدّس الإجماع وتلعن الاجتهاد، وتُفضّل التبعية على المسؤولية الفردية في التفكير. بينما جاء الدين – في أصله – مخاطِبًا للعقل، ومُنزَّلًا بلغة تستوعب الإدراك الإنساني، لا تُلغيه.

سعيد بنجبلي لم يكن نبيًّا، ولم يدّعِ امتلاك الحقيقة. لكنه كان باحثًا عنها، وساعيًا إلى أن يفهم، حتى وإن قاده ذلك إلى رفض بعض المسلمات. وهذا حق لكل إنسان عاقل. وموته، رغم الألم، كشف من جديد مدى هشاشة ثقافة الحوار، وسطوة التكفير، وعمق أزمتنا في تقبّل الآخر المختلف.

رحمه الله، وجعل من روحه الحُرّة قبسًا يُنير دروبًا أخرى لأناس يجرؤون على السؤال، في زمن صار فيه السؤال تهمة.