adsense

2018/02/24 - 4:06 م

بقلم الأستاذ حميد طاولوست
سأتوقف اليوم عند ظاهرة خطيرة ، تعكس مدى الهبوط السياسي في الكثير من البلدان العربية ، وهشاشة المنظومة القيمية للعملية السياسية بها، وتفضح غياب الروح الوطنية عنها ،و التي انتشرت في الآونة الأخيرة  -وبالضبط بعد ما سمي بالربيع العربي - بطريقة مباشرة و دون تدرج واكتسحت جميع مؤسساتها الرسمية ، وسرت بلا أعراض في مفاصلها وزواياها، كسريان السم في الجسد ، فملأت علينا كل فضاءات حياتنا ، حتى لم يعد أبسط المواطنين ، لا إلى ذكاء أو خبرة لإكتشافها بيسر وسهولة ،  وذلك لديوعها الفاضح والمفضوح في الساحة السياسية ودواليب الأحزاب ومركزياتها النقابية، والمتمثلة في احتلال المناصب القيادية في تسيير البلاد ، من لدن أفواج مجهولي النسب السياسي ، وجحافل النكرات السياسية المفتقدة للتعاطف والشعور بنداءات المظلومين والمقهورين ، الذين أنتجتهم ديمقراطية العشائر وطوائفها المذهبية والسياسية والعقائدية ، ورجال الدين ومنظومة وديهياتهم ، ومبادئهم العقيدية والسياسية ، وأبدعت مجاميع الطامحين في قيادة المجتمع والدولة - بلا خبرة أو ذربة ، ولا انتماء وطني أو شعور بالمسؤوليات ، وبدون شجرة نسب سياسي- في تطوير أساليب تطبيق أجنداتهم لتشويه الديمقراطية، واغتيال البناء العدالة الاجتماعية وتجريدهما من قيمهما ومبادئهما الإنسانية ، وتبرير منزلقاتهم في التنكّر للثوابت ، وسلخ المواطن من هويته ومشروعيته ،  بإعتمادهم الكلي على الدين والمذهبية والعصبيات القبلية ، للوصول إلى احتلال كراسي السياسة والامساك بمقاليد الأمور في الدولة بكل ملحقاتها من برلمان وحكومة ، للتحكم في كل كبيرة وصغيرة والاستحواذ على ثروات الشعب المطمورة في مغارة الدولة ، وتحويلها إلى حسابات خاصة ، من خلال مشاريع وهمية وصفقات مريبة ، تفترس بها مقدرات الشعب المقهور ، وينهش لحمه ، وتطحن عظامه ، بعد أن "يضبعه" رجال السلطة خريجي الأحزاب الكارتونية مجهولة الجذور هي الأخرى، بأحدث أساليب "التضبيع والتكليخ" والأكثر فعالية وتأثيراً من بول الضبع ، والتي منها على سبيل المثال لا الحصر:
الخطابات العاطفية الجياشة الزاخرة بالبكائيات والمظلومية المدغدغة للمشاعر الدينية ، التي لا تؤسس إلا للخرافة واستبعاد العقل والمنطق ، دون أن تنتج أية إضافة أو معرفة غير إزهاق الحق و نصر الباطل من أجل مصالح شخصية و أهواء ذاتية تؤدي إلى نشر الظلم واستغلال الشعوب والأفراد وامتصاص دمائها والتحكم بهم واستحمارها.
تبرئة مجهولي النسب السياسي والإعلامي ، لأنفسهم وأتباعهم وأزلامهم وحلفائهم وكل من تربطهم بهم روابط طائفية أو قرابات عشائرية ، من تهم الإنتهازية والتسلط والاستبداد القبلي والعشائري و السعي وراء السلطة وتحقيق المصالح الشخصية ، عوض إرضاء الله أو العمل الصالح المقهورين   .
اظهار الطارئين على العمل السياسي والمتشبطين به ، الذين لا وطنية لهم ، على أنهم رموز وطنية ، رغم أنهم لم يقدموا لشعبهم سوى الشعارات الجوفاء والوعود الكاذبة.
وفي حال ما شعر جيش مجهول الهوية ، باستعصاء تضبيع الناس واستحمارهم بالعاطفة ، أو أحسوا بفشل أساليبهم الجهنمية في التضبيع والتكليخ والاستحمار ، فإنهم يلجأوا للعنف والتغالب وإستخدام أقصى ما يملكون من القوة بمختلف أشكالها و تنوع مسمياتها ، التي تصل عندهم إلى تصفية كل من يقف في وجه مصالحهم ، في الوقت الذي أضحت الدولة في أمس الحاجة إلى تنظيفها والأحزاب السياسية من الفاسدين الذين يعيشون فيها عصر المشاعية البدائية ، وتخليصها من العقول المعطلة المقيدة بالمقدس والوهم والخرافة والجريمة المبررة والكذب الممنهج ، والظلم والفجور المغلفين بالدين، وتغييرها بدماء وعقول جديدة وعقليات تساير متغيرات العصر ، ومتطلباته على الصعيدين الوطني والدولي ، خاصة وأنه لا تنقص بلادنا الولود ، لا الرجالات الوطنية المخلصة النزيهة ، ولا الأطر المقتدرة المستقيمة ، ولا ذوي الكفاءات المتميزة والمقومات الذهنية العالية ، ولنا العظة والعبرة في الخبرات المهاجرة ، التي لا تقصر ولا تبخل بجهودها وقدراتها وخبراتها لإثبات الذات وتحقيق الذوات ، والتي يتم الاعتماد عليها كليا في الكثير من بلاد المهجر - كنجاة بلقاسم على سبيل المثال لا الحصر.
فلماذا لا يُطبق ذلك في وطننا المعطاء، وبين أهلنا الكرام، وتُفتح الفرص واسعة ومتاحة بالعدل القائم على قيم المساواة التامة ، لكل الطاقات القادرة على العطاء المبدع ، التي يحقق الانتصارات والإنجازات التي تبني الأوطان قوية ليستظل تحت رايتها جميع أعضاء المجتمع ، وتنعم فيها كل مكوناته بحياة رغدة ، ويشعرون داخلها وخارجه بالانتماء إليها،  بدل الإستمرار في التدمير الممنهج للبلاد وتضييع ثرواتها وسرقة أموالها العام وإغراقها بالديون في أمور هامشية، كما هو الأمر الذي أصبح معتادا في مغربنا العزيز ، ولدى الشخصيات السيكوباتية ، التي ارغم أنها تبدو طبيعية إلا أنها تشكل خطورة شديدة على مجتمعاته ، لأنها لا تتمتع بأي حس وطني وليس لديها أي وازع من ضمير .
إن شعبا كريما كالمغرب، قدم العديد من التضحيات و النضالات،  لخليق بأن يحظى بمسؤولين حكوميين ورؤساء أحزاب ومؤسسات تسيير شونه العامة ، في مستوى تضحياته ونضالاته، معروفون بمواقفهم السياسية الثابتة، حزبيون كانوا بانتماءاتهم المتينة ، أو مستقلين خاضوا معارك حقوقية وكفاحات نضالية من أجل الحريات العامة ومكافحة الفساد، وتحقيق دولة الحق والقانون، أقوياء بوطنيتهم، يتحملون مواقفهم بكل شجاعة وجرأة، يجتهدون لحل معضلات البلاد و التخفيف من معاناة العباد، حسب أجندة واضحة المعالم، وبرامج محسوبة المرامي تؤسس لتجربة سياسية حقيقية، تجلب الرخاء والنماء ، وتكرس المكتسبات ، بالنضال الصادق المستميت داخل المجالس المنتخبة وخارجها، بكل الطرق السلمية والمشروعة .
لقد حان الوقت للتوقف عند كثل هذه الظواهر المسيئة للوطن والمواطنين ، والاستفاقة من حالة "التضبع" والاستحمار التي نغرق في مخدرها ، وننبد مبدأ المثل الدارج "حط راسك بين الروس وقول يا قطاع الروس " الذي نؤمن به ونطبقه بحذافره ، حتى نحفاظ على ما تبقى من وطننا ، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل أن تأتينا "تضبيعة" أقوى مما نحن فيه ، لا تنفع بعدها استفاقة أو ندم.