adsense

2021/01/28 - 8:52 م


 بقلم عبدالحي الرايس

تأبى بعضُ الأصوات إلا أن تتعبأ للتحامُل على العربية واضعَةً إيَّاها أسفلَ السُّلَّم مقارنةً مع الإنجليزية والفرنسية، مُؤكِّدة لِمَنْ يَعْتبرُ الفرنسية فاشلةً في تدريس العلوم، أن العربية أفْشل، مُتعَلِّلة باستدلالٍ ظاهرُهُ حقٌّ، وباطنُه ليس على شَيْء.

وحتى يتسنَّى تَفْنِيدُ ادعاءاتِها ومزاعمِها التي لا تفتَأُ تُرَدِّدُها في كل المناسباتِ والمحافل، يكونُ من النَّصَفة أَوَّلاً أن نُجْمِلَها في الآتي:

يقول أحدُهم: ـ المنتصرون للتعريب من لَوْنٍ سياسي أو أكثر دَرَسُوا العلومَ بالفرنسية، وألْحَقُوا أبناءَهم كذلك بمدارسها، ويَعْتبرُ ذلك أكبرَ عمليةِ نِفَاقٍ سياسي، مُخاطِباً إيَّاهم بقوله:

"ما تُريدُهُ لنفسك، ابْتَغِهِ لأوْلادِ الشَّعْب"

ـ ويُضِيف:  ليس للعربيةِ بَاعٌ في البحث العلمي المعاصر، وهي عاجزة عن ترجمةِ مُسْتجداتِ المُصطلح العلمي المُنتَج حديثاً، عَكْسَ ما تُحَقِّقُهُ الفرنسية.

ـ ويَمْضِي قائلاً: تَمَّ التعريبُ لعُقود، ولم يُفِدْ بشيْء، وبَدَلاً من الاعتراف بفشَلِ التجربة، يُجَدِّدُ المُنتصرُون للتعريب المُطالبةَ بالعودةِ إليه .

ويَعتبرُ ذلك ـ إنْ حَدَث ـ تكْريساً للتخلُّفِ والفشل، يقول :(فشلنا فشلاً ذريعاً في التعريب)، ويُوَضِّح أكثر:

ـ عَرَّبْتُمُ العلومَ في الابتدائي والإعدادي، وفشِلتُمْ في تعريبِها في العالي، فلما ذا تُريدُونَ تَكْرَارَ نفس التجربة؟ ! ويَخْتِمُ بقوله: سَئِمْنَا تَكْرَارَ نفْسِ اللعبة.

وأبْدَأُ من حيثُ كان الانتهاء، فأذَكـِّرُ بأنَّ تعريبَ العلوم في التعليم العالي لَمْ يُجَرَّبْ، ولم يُفعَّلْ حتى يُوسَمَ بالفشَل، وإنما أُفْشِلَ منذُ البداية، إذْ حِيلَ بينهُ وبين أن يتواصَلَ ويتحقَّق، عندما اختارت السلطةُ العليا في البلاد مُسَايَرَة التَّوَجُّهِ نحو التعريب، ولكنها قرَّرَتْ أن يَقِفَ عند حُدُودِ الثانوي، دون أن يَشْمَلَ العالي، ومن ثَمَّ فأجيالُ الْمُعَرَّبين عند التحاقهم بالجامعة صار عليهم وهم يتلمَّسُون الطريقَ نحو العلوم أن يُواجِهُوا صُعُوبَتيْن: صعوبةَ تحْصيل المادَّةِ الْعِلْميَّة، وصعوبةَ التمرُّسِ باللغةِ الأجنبية، فلا هُمْ اسْتثمرُوا لغتَهم التي جاؤوا بها، ولا هُم تمكَّنُوا من اللغة الثانية، ولا هُمْ اسْتوْعبُوا جيِّداً ما يُقدَّمُ لَهُم، وكلُّ مَجَالٍ يَتَغذَّى مِمَّا يُنْتِجُه، فَأُطُرُ الابتدائي والثانوي وحتى العالي بعد ذلك هي من عطاءاتِ الجامعة في الاِخْتيَارِ الخطإ، وخيرُ ما يَقُومُ شاهداً على ذلك أن نُخْبَةً من أساتذة التعليم العالي الفرانكوفويين أو الأنكلوساكسونيين ـ في أصْلِ تكوينِهم خارجَ أرضِ الوطن ـ باشرُوا تجْربةَ تقديمِ نفسِ المادةِ العِلْميَّةِ والمُسَاءلَةِ فيها باللغتين، فانتهوا إلى أن الطالب كان أسْرعَ إلى الاستيعابِ بلغته الأولى وأنْجَحَ في الإجابة بها عن الأسئلة.

وأكَّدَتِ العربية حُضُورَها في عصرنا هذا، في أقطارٍ عربيةٍ أخرى ـ بِحَمَلَة شهاداتٍ عُليا مُبْدِعين ومُتميزين في الهندسة، والطب، ومُختلِف التخصصات، قبل أن تُوَجَّه إليها الضَّرَبَات.

وهذا تقريرُ اليونسكو يُؤكد على " أن اللغة الوطنية من الناحية البيداغوجية تُمكِّنُ الناشئَ من التعلُّم بسرعةٍ أكبر من تلك التي يتعلمُ بها إذا كانت اللغة أجنبية عنه"

والتقريرُ الأمَمِي بذلك لا ينْحازُ ولا يُدافعُ عن لغةٍ بعيْنها، وإنما يُوجِّهُ النُّصْحَ لكل بَلَدٍ أراد التحررَ، وتأكيدَ الْهُوية، وتسريعَ عجلةِ التنمية.

وفي العالم لغاتٌ صينية وهندية وتركية وروسية وفيتنامية ويابانية وغيرها، وكل أقوامها وغيرهم اعتمدوا لغتهم الأولى وأنتجوا بها وأبدعوا وتقدموا، وانفتحوا بعد ذلك على غيرها من اللغات.

ونَعُودُ إلى التُّهْمَةِ التي يُرَادُ إلصاقـُها بالعربية حين تُدْمَغُ بالعجز عن الإتيان بالمصطلحاتِ للكشوفاتِ والمخترعات الجديدة بالإنجليزية (السائدةِ اليوم)، وتَقَدُّم الفرنسية عليها في ذلك، ولا نَرَانَا بحاجةٍ إلى التذكيرِ بالرَّصِيدِ الهائلِ للغة العربية، وقابليتِها لِلنَّحْتِ والاشْتِقاق، وبِالْمِيزةِ التي تكادُ تنفردُ بها عن سائر اللغات، وهي التجدُّد والخلود، بدليل أن لغة العصر لا تنأى كثيراً عن تلك التي كانت متداوَلة منذ قرون،.وبأنَّ الْغَرْبَ إنما انْطلق في نهضته، بتتلْمُذِهِ على العرب في جامعاتهم، وبما نَقلَهُ عن عُلمائهم ومُفكِّريهم من أمَّهَاتِ الموسوعاتِ والمُؤلَّفات، فالعجْزُ ليس في اللغة، وإنما في أبنائها الذين استكانُوا إلى التبعيةِ والاسْتلاب، وتفرَّقوا فضعُفوا، وتخاذَلُوا فَهَانُوا على أنْفُسِهم وعلى غيرهم.

وأخْتِمُ بما يَستهِلُّ به الصوت المتحامل طلعاتِه من إلْصَاقِ تُهمَةِ النفاقِ السياسي بِمَنْ تَخرَّجَ من مدارسَ فرنسية، وما زال يُلْحِقُ أبناءَهُ بها، وهو في الآن ذاته يُطالِبُ بالتعريبِ وبالارتقاءِ بالمدرسةِ المغربية، فأفـُكُّ عُقدَةَ التَّضَادِّ والنِّفاق بالقول:  إن كُلَّ المواطنين يطمحُونَ إلى تعليمٍ أجْدى، ومدارسَ وطنيةٍ أرقى، وإطارِ حَيَاةٍ أسْمى، ولكنَّ كُلَّ الآباء ـ أيّاً كان مستواهُم الاجتماعي ـ يَنْشُدُون لأبنائهم التفوق، ويسهرون على إلحاقهم بمدارس التميُّز، وفي انتظار تحقيق ذلك يأمل الجميع ألا يطولَ بنا التذبذبُ والانتظار، والتأرجحُ في الاختيار، لنسير على درب مَن ارْتقَوْا بسرعةٍ مَدارجَ النماء بالاعتدادِ بِالْهُويَّة، واعْتمادِ اللغةِ الوطنية.

وعَقْدُ العشرينيَّات في أفق مَطْلَعِ الثلاثينيات (2030) هو ـ في مَنْظور الأمم المتحدة ـ عَقْدُ الصَّحْوةِ والتدارُك، تسْريعاً لتنزيل أهدافِ التنميةِ المُستدامةِ السبعةَ عشر، وضِمْنَها الهدفُ الرابع المُعَنْوَن ب "التعليم الجيد".

ولا جَوْدَةَ للتعليم، ولا اسْتِدَامةَ للتنمية من غير العوْدةِ الكاملة بعزم وثقة واعتداد،  لتحقيق المدرسة المغربية، وتأكيدِ حضور الْهُوية الوطنية، والْكَفِّ  عن المغالطاتِ والاستلابِ والتبعية.