بقلم الأستاذ حميد طولست
مقدمة: بين شرعية ملكية وخطاب تنقيصي
في مغرب اليوم، حيث يعلو الخطاب الرسمي
بشعارات الشفافية وربط المسؤولية بالمحاسبة، تبرز من حين لآخر فضائح تذكّرنا بأن
الفساد لم يغادر بعد مفاصل مؤسساتنا الحيوية. من بين تلك الفضائح، تظل قضية
"الماستر مقابل المال" بكلية الحقوق التابعة لجامعة ابن زهر بأكادير
إحدى أخطر الأزمات التي هزّت الرأي العام، ليس فقط لأنها تكشف عن منظومة تربوية
نخرتها الزبونية والرشوة، بل لأنها تسائل عمق الالتزام بالدستور والخطاب الملكي
الذي دعا منذ 2016 إلى إشراك المجتمع المدني في معركة تخليق الحياة العامة.
فهل نعيش فعلاً في مغرب ما بعد المفهوم
الجديد للسلطة؟ أم أننا أمام ارتداد خطير تحوّل فيه المبلغ عن الفساد إلى متهم،
وتُمنح فيه الحماية للمفسدين باسم "القانون"؟ فما كشفته تقارير صحفية
وشكايات متعددة بخصوص بيع شهادات الماستر بمبالغ وصلت في المعدل إلى 20 مليون
سنتيم، يرقى إلى جريمة منظمة مكتملة الأركان. فبناءً على الرقم المالي المسجل في
الحساب البنكي لزوجة أحد المتهمين والذي بلغ 8 مليارات سنتيم، يمكن الحديث عن أزيد
من 400 شهادة ماستر مزورة تم تسويقها مقابل المال، مما يعني وجود مئات من الأطر
المزيفة يتبوؤون مناصب لا يستحقونها، على حساب خريجين أكفاء تم إقصاؤهم لأنهم لا
يملكون ثمن "الماستر".
هذه ليست مجرد واقعة فساد إداري، بل هي
جريمة أخلاقية ضد تكافؤ الفرص، وضرب مباشر لمبدأ الكفاءة في تولي المناصب، وتدمير
لأحلام شباب مغربي قضى سنوات في التحصيل الأكاديمي من أجل أن تُسلب منه الفرص من
طرف "شناقة التعليم العالي".
والأخطر من كل ما سبق، أن أحد الشبان
الذين فضحوا هذا الفساد سنة 2018 على مواقع التواصل الاجتماعي، لم تتم حمايته أو
الاستماع إلى شهادته، بل صدرت في حقه أحكام قضائية، في تجسيد صادم للعدالة
المعكوسة.
الوضع الذي يعيدنا إلى تصريحات وزير
العدل التي تدعي أن الجمعيات "غير مخولة" لتقديم شكايات ضد الفساد، مما
يشكل توجهاً خطيراً يروم إسكات الفاعل المدني، وتكميم المجتمع بدل تمكينه، في
تناقض صريح مع الرؤية الدستورية للمملكة والخطاب الملكي المؤسس الذي ورد فيه بوضوح
بمناسبة عيد العرش بتاريخ 30 يوليوز 2016، تفويض ملكي صريح للمجتمع في محاربة
الفساد الذي جعله جلالة الملك محمد السادس
قضية الدولة والمجتمع: الدولة بمؤسساتها، والمجتمع بكل مكوناته، من خلال رفضها،
وفضح ممارسيها."
هذا التوجيه الملكي يمنح شرعية كاملة
للمجتمع المدني والمواطنين في تبليغ وكشف الفساد، ويجعل من الفعل التبليغي عنصراً
مركزياً في تخليق الحياة العامة. وبالتالي، فإن محاولة نزع هذه الشرعية من الفاعل
المدني ليست فقط تجاهلاً لتوجيهات جلالة الملك، بل خرقاً سياسياً ودستورياً فاضحاً.
حيث جاء في نفس الخطاب الملكي أن
المفهوم الجديد للسلطة لا يقتصر على الإدارة، بل يشمل المنتخبين والمسؤولين، وأن
المحاسبة يجب أن تشمل التصويت الشعبي، والتتبع المجتمعي، لا القضاء وحده. وبهذا
المعنى، فإن المجتمع المدني، الذي يراقب ويبلغ، لا يتجاوز حدوده، بل يمارس دوره
الطبيعي في الديمقراطية التشاركية، وفقاً للاتفاقيات الدولية وفلسفة دستور 2011 ،
الذي يمنح أدوات الحماية لا الكبح ، كما في الفصل 12 من دستور 2011 يمنح الجمعيات
حق تأطير المواطن والمساهمة في الديمقراطية. والفصل 15 يقر بحق العرائض
والملتمسات. ، والفصل 154 يؤكد على الشفافية وربط المسؤولية بالمحاسبة. والفصل 6
يضع الجميع، بما فيهم المسؤولون، تحت سلطة القانون.
أما على المستوى الدولي، فقد صادق
المغرب على اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد (UNCAC)، التي تنص في
مادتيها 13 و33 على إشراك المجتمع المدني، وحماية المبلغين، وعدم إخضاعهم لأي
معاملة انتقامية ، لإن التوجه الذي يسعى إلى تجريم المجتمع المدني، وتحجيم دوره في
الرقابة والتبليغ، هو ارتداد خطير، يجب أن يُواجه بتعبئة مجتمعية، وبرلمانية،
وقضائية. فالمعركة ضد الفساد لا تُكسب بتكميم الأفواه، بل بإطلاقها، ولا بنفي دور
المواطن، بل بتمكينه، وفقاً لتوجيهات جلالة الملك، وروح الدستور، والتزامات المغرب
الدولية.
إن السكوت عن هذا الانحراف هو تواطؤ،
والوقوف ضده هو واجب وطني وذلك لأنه لا يمكن أن نستمر في محاربة الفساد دون حماية
قانونية للمبلغين، سواء أكانوا مواطنين أو جمعيات. فثقافة التبليغ ما زالت هشة،
والخوف من الانتقام حقيقي، والدولة مدعوة لتقوية الثقة عبر:
• إصدار
قانون خاص لحماية المبلغين يضمن سرية الهوية، ويمنع الانتقام.
• فتح
تحقيق برلماني حول تصريحات وزير العدل.
• تضمين
حماية المجتمع المدني في الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد.
• تفعيل
القضاء الإداري ضد أي توجيه يُقصي الجمعيات من أدوار الرقابة.
فلا سلطة فوق الملك، ولا خطاب فوق
الدستور..