adsense

2022/07/13 - 1:53 م

بقلم عبدالحي الرايس

جَدَّتي زيْنب، كانت تَحْضُنُ وترْعَى زهرةً ناصعةَ البياض، سميكة الوُرَيْقات، تتميز بأريج ذكيّ يَبُزُّ شذا النسرين، وعِطرَ الياسمين، وكانت كلَّما تفتحت الأزهار، واصطفت على قضيب يتوسط الوُريْقات الخضراء قطفَتْ بعضَها، ووضعتها في منديل أبيض، طالبة من الصغار حَمْلَها إلى ضريح مؤسس فاس، المولى إدريس الأزهر، تيمُّناً والتماساً للخير والبركة.

لم تكن تعلمُ أن اسمها يوافق اسم الزهرة الأثيرة لديها (في لغة الضاد)، ولكنها دأبت على الوصاية بالعناية بها، وعلَّمتنا أنها تتكاثرُ ببُصَيْلات في باطن التربة، وأنها بَعْد إزهار في الصيف يكون انطفاءٌ في الخريف والشتاء، ومع تباشير الربيع تُنْبَشُ التربة، فإذا بالبُصَيْلة قد تكاثرت، فصارت بُصَيْلات، تُسْتخرَجُ منها، ويُحْتفظ بها في مكان جاف ودافئ، فإذا انتصف الربيع تُفَكُّ البُصيْلات، وتُوَزَّعُ على الأصص أو الأحواض، وقد يُهدَى بعضُها إلى الأقارب والجيران، فينتشر حضورُها، ويتنامى الاهتمامُ بها.

وكانت سطوح المدينة وعرصاتها ورياضها تتنافس في استحضار الياسمين بلونيها الأبيض والأصفر، وأزهار الفن والغمباج والقرنفل ولَحْكَم والسوسن، ونباتات عطرية من قبيل مرددوش واللويزة والعطرشة والحبق والسالمية ، وتَنقُلُ الولعَ بها من الكبار إلى الصغار.

ثم رَحَلَتِ الجدة في بداية سبعينيات القرن الماضي، وانغمرْنا في مُعترَك الحياة، إلى أن هَبَّتْ علينا صَحْوة، ونحن نُعْنَى بعالم النبات، وتتناهى إلينا أخبارُ النباتات المنقرضة أو المهددة بالانقراض، فتداعت للخاطر صورة زهرة "الفن" وهو الاسم الذي عُرفت به في فاس، فكان البحث والتقصي، وإذا بالزهرة اختفت من فاس، ولم يعد لها حضور إلا في الذاكرة، ولو أن مُجرَّدَ ذِكْرها يُعَطِّرُ الأنفاس، وانْشغل البال، وتواصل البحثُ والسؤال، جادت المعاجم والمناهل بأسماء أخرى لها، فإذا هي "مسك الروم" و"زينب" و" Tubéreuse"، وحضرت الصورة، ولكنَّ البحث عنها امْتَدَّ لِعُقود، إلى أن قادت الصدفة إلى أحد منابت "طنجة" فكان الظفر ببعض الشتلات التي أمَدَّتْ بِبُصَيْلات، ومعها كان إنعاشُ الذاكرة بشروطِ غرسها في تُربة هي مَزيجٌ بنسبة الثلث لكل من رمل الوادي ( Sable de la Rivière) والتيْرب ( Terreau) والتربة ( Terre Végétale) مع النُّصْح بغرسها في اتجاهِ الجنوب، وبعيداً عن مجرى التيار(عَدُوِّها الأول) بِحُكْمِ لُيُونة قضيبها وثِقلِ أزهارها.

كانت الفرحة كبيرة، وكان الحرصُ على تَعْداد فرص اقتناء البُصيْلات كلما تكرر الحلول بعروس الشمال، ثم كان السهر على نقل هذا الولع إلى الأهل والأصحاب، مع التتبع والمساءلة، والتأكيد على ضرورة مواصلة التعهد، وعدم التقصير في الريِّ والصيانة.

ولنا الآن أن نقول: إن "الفن" استأنف حضوره بفاس، وللمُولعين أن يطلبوا الحصول على بُصيلة له إبان الربيع، شريطة أن يحظى لديهم بالرعاية، وأن يُعلِنُوا عن احتفائهم به عندهم، وألا يُقصِّرُوا في الحفاظ عليه، والعناية به.